وجدي الأهدل*
لماذا أثارت رواية (فهرنهايت 451) عند صدورها في أمريكا عام 1953 ضجة هائلة، وتهافت القراء على اقتنائها؟ لماذا باعت ملايين النسخ لمؤلف مغمور لم يسمع عنه أحد قبلها؟
لأن القراء وجدوا في الرواية صيحة تحذير من أن يتحول النظام السياسي الأمريكي إلى نظام شمولي تحت ذريعة فرض السعادة على المواطنين، وحظر كل ما قد يهدد هذا الشعور الزائف بالسعادة.
تبدو الرواية في بعض ملامحها نسخة أمريكية من الرواية البريطانية الأكثر شهرة (1984) للمؤلف جورج أورويل، ولكن المعالجة مختلفة اختلافًا جذريًّا، فإذا كان جورج أورويل قد انتقد الأنظمة الاشتراكية الديكتاتورية، ورمز لها بـ”الأخ الأكبر” الذي يراقب كل شيء ويتحكم في حياة الناس إلى درجة كتم الأنفاس، فإن رواية (فهرنهايت 451) لديها حمولة أيديولوجية مناقضة، فهي تهاجم بذكاء شديد وحدس مذهل الأداء السياسي الرأسمالي لدول الغرب، الذي سيقود بحسب تنبؤاته إلى نظام شمولي يتحكم في حياة الناس بواسطة التكنولوجيا.. وهو ما يحدث حاليًّا!
وكما أن جورج أورويل كتب روايته عام 1948 وتنبأ بسيطرة ديكتاتور واحد يحكم العالم عام 1984، أيّ أنه جعل أحداث روايته تدور في المستقبل، فإن راي برادبوري تنبأ بإحكام الدولة سيطرتها على المواطنين بواسطة التكنولوجيا عام 2022.
نبوءة جورج أورويل لم تتحقق، فقد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 ومعه منظومة دول الكتلة الشرقية، ولم يعد بإمكان ديكتاتور ماركسي أن يحكم العالم.
وعلى العكس يبدو أن نبوءة راي برادبوري بدأت فعلًا بالتحقق على أرض الواقع، وأن الدولة في أمريكا وسائر الدول المتطورة في طريقها إلى إحكام سيطرتها على المواطنين سيطرة تامة، لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري، بحيث يصبح المواطن مراقبًا منذ مولده وحتى مماته، ومحاصرًا على الدوام بأدوات قمعية تفرض عليه الالتزام بما يسمى (الصوابية السياسية).
وفقًا لنبوءة راي برادبوري، فإن عدد الرجال والنساء الأحرار سيتضاءل إلى حد التلاشي تقريبًا، وإذا ما وجد أمثال هؤلاء فإنهم سيعيشون في أماكن نائية، وسيكون همهم الوحيد النجاة من المطاردة.
صحيح أن هذا الرؤية السوداوية لم تتحقق بحذافيرها في عام 2022 كما تنبأ راي برادبوري، ولكن العجيب أن الخطوط العامة لتصوراته تقترب كثيرًا من التحقق كنتيجة حتمية لتطور التكنولوجيا، مثل الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي وتقنية النانو وشرائحها التي ستزرع في الجسد البشري لا محالة.
بطل الرواية “غاي مونتاغ” هو إطفائي، ورغم أن العلم قد توصل إلى اختراع طلاء يمنع احتراق المنازل، فإن هذه المهنة قد استمرت ولكن لهدف آخر، هو إحراق المنازل!!
سيارات الإطفاء لم تعد تُملأ بالماء ولكن بالكيروسين سريع الاشتعال، ووظيفة مراكز الإطفاء هي إحراق البيوت التي يصل بلاغ من مجهول غالبًا أن فيها كتبًا.. وهكذا تتوجه سيارات الإطفاء مع كلب ميكانيكي لرش البيت بالكيروسين ثم إشعال النار فيه، وإذا رفض سكان البيت المغادرة فإنهم يحترقون مع كتبهم.
في رأي الدولة أن الكتب هي مصدر التعاسة الأول، وأن من واجب الدولة القضاء على الكتب قضاءً مبرمًا، وبذلك تنتهي أسباب الكآبة والحزن ويعيش الجميع سعداء.
في الوقت نفسه تخوض الدولة حروبًا متتالية، والمواطن مطلوب منه عدم التفكير بشأنها، فكل ما عليه هو أن يتمتع بالسعادة الممنوحة له.
نلمح طرحًا فلسفيًّا عميقًا في رواية (فهرنهايت 451) عندما نفهم أن فرض السعادة بالقوة على المواطنين سيؤدي إلى نوع من العدمية ورغبة تنهش الروح في الانتحار.
زوجة (غاي مونتاغ) تبتلع كمية كبيرة من الحبوب المهدئة، ولكنه يتمكن من إنقاذها، وبضربة بارعة من راي برادبوري يخبرنا أن من أنقذها من براثن الموت ليسوا أطباء، ولكن عمال لا يحملون أيّ شهادات، وهم أقرب إلى عمال السباكة، لتفشي الانتحار بين المواطنين.
يحدث تحول في شخصية (غاي مونتاغ) بعد أن أحرق عجوزًا رفضت مغادرة منزلها متشبثة بكتبها، فاعتراه الفضول لمعرفة ما الذي يوجد في الكتب ويدفع بعض الناس إلى التضحية بحياتهم من أجلها.. وهكذا يختلس مونتاغ عددًا من الكتب من البيوت التي يذهب لإحراقها ويخبئها في بيته.. ويلاحظ رئيسه في العمل (بيتي) التغيرات التي لحقت بشخصيته، وكذلك الكلب الميكانيكي الذي بدأ ينبح عليه ويتأهب للانقضاض عليه، ثم يصل بلاغ من مجهول، وتتحرك فرقة الإطفاء، ويتفاجأ مونتاغ أن العنوان المعطى هو عنوان بيته! يحرق مونتاغ بيته بيده ثم يحرق رئيسه والكلب الميكانيكي ويفر إلى خارج المدينة، ويصادف في الغابات مجموعة من الهائمين المشردين وينضم إليهم، ويكتشف أنهم ممن أحرقت منازلهم وكتبهم، ولكن كل واحد منهم يحفظ كتابًا واحدًا على الأقل، ويمكنه استرجاعه غيبًا من ذاكرته.
تنتهي الرواية بدمار المدينة بهجوم نووي، وعودة الأبناء الضالين إلى المدينة لتقديم المساعدة لمن نجوا من الانفجار النووي.
ولد راي برادبوري عام 1920 في ولاية ألينوي، ويعد واحدًا من أفضل كُتّاب أدب الخيال العلمي ورواية الديستوبيا، ألّف أكثر من 500 رواية وقصة ومسرحية، ونال جائزة بوليتزر الرفيعة عام 2007، وميدالية العطاء المتميز للأدب الأمريكي لعام 2000، وعشرات الجوائز الأخرى.
الترجمة العربية لرواية (فهرنهايت 451) تأخرت كثيرًا، حوالي 60 عامًا، ولكنها صدرت أخيرًا عام 2014 عن دار الساقي، وترجمها للعربية سعيد العظم.
لقد تنبأ راي براد بوري بـعصر الاشمئزاز من الثقافة قبل حلوله بوقت طويل، ولعل المفكر الكندي آلان دونو قد استقى أفكار كتابه “نظام التفاهة” من هذه الرواية الخالدة.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات