محمد آل زيد
من بين الدخان الأبيض برز، كغولٍ خٌلق من دخان، محمولاً على كتفيّ صبيٍّ شائه الوجه، بفَكٍّ بارز، وشَعْرٍ ثائر بلون خالط بياضه سواده.. صدره ناتئ، ويداه ضئيلتان.. أما قدماه فكانتا متدليتين على كتفي الصبي، قدماه ضامرتان كقدمي طفل في السابعة..
حمَله الصبيّ الذي يرتدي زيًّا رياضيًّا لأحد النوادي العالمية، ويعتمر قبعة (كاب) منكّسة حتى تكاد تحجب عينيّه.. جال الطفل في أرجاء النُّزل أو (اللوكندة)، كما تُسمى محليًّا، وهي مكان يتألف – غالبًا – من غرفة فسيحة، قسم منها يشغله الجلوس ممن يمضغون القات، يشاهدون التلفاز، أو يتبادلون الأحاديث، معظمهم عابري سبيل أو عُمّال معدمين.. بحَث الصبيّ عن مكان يُنزل فيه حمولته، وتمنيتُ ألّا يضعها جِواري؛ فقد كنت سادرًا أسحب حبل أفكارٍ راجيًا ألّا ينقطع.. للأسف انتهى المطاف بالولد والغول إلى المكان الخالي بجانبي، فترجّل المعاق، وتوارى الصبي محنيّ الرأس في مكان خفيّ خلف صف الجالسين، اختنق الجو بدخان المعسل، واختلطت به رائحة القات، وتراءت الجدران من خلف ستار الدخان الذي تُصدرِه «نارجيلتي» بطلائها الأصفر البالي كالمكان ذاته.. لم أشأ أنْ أبيّن للرجل بجواري امتعاضي منه، فأمعنت تحيّته، والعودة إلى قاربي العائم على نهر خيالاتي.
– حياك الله.
– الله يحييك.
رد بابتسامة لطيفة ما كنت أظن أن مثل هذه السحنة قادرة على رسمها.. منحتني التحية نظرة مقربة إلى هيئته.. كان يرتدي ثوبًا عفنًا تبرز منه قدماه وكأنهما ليستا له.. عظام قفصه الصدري متقدمة كأنه طفل ينفخ صدره ليحاكي شخصًا بالغًا.. للحق، بدا لي وجهه شبه طبيعي إذا نظرنا إليه بمعزل عن سائر جسده.. بل بدا لي مألوفًا، وسألت نفسي: أين رأيته؟..
– أتريد بعضًا من القات؟
– لا.. شكرًا.
أعجوبة هذا المعدم، يعرض عليّ شيئًا من قاته.. آه، الآن تذكرتُ أين رأيته.. إنه متسول من حين لآخر بجانب محطات الباصات وأسواق القات.. يستجدي المارة، مستغلاً مظهره الذي يبعث على النفور والشفقة في الآن ذاته.. لا أخفيك أنني لم أكن متحمسًا للحديث معه، لكن نفيًا لتهمة التعالي أردتُ محادثته للحظات وجيزة.
– طيبٌ ذلك الولد الذي حملك إلى هنا.
– نعم.. مطيع، لكنه خجول.
– أتعرفه؟
– هذا أصغر أبنائي، عندي ولد وبنت أكبر منه.
كان ذلك الصبي نظيف الهندام، سليم البدن.. من المنطقي أن أشك في حديثه.
– وهو مَن يحملك دائمًا؟
– ليس دائمًا، في فترة الإجازة الدراسية يتفرغ لي هنا.. أنا لا (أشتغل) طوال العام، ولكنه يكون هنا، يستيقظ معي في الصباح الباكر، ويحملني حتى مكان “العمل”.
– وماذا عن أخيه الأكبر؟
– هو معلم في مدرسة ابتدائية في قريتنا بجبل صبر؟
أولاد.. معلم.. ما الأمر؟!.. رجل بطول أخيك أو ابنك البالغ من العمر سبعًا، بجسدٍ مشوّه، نصف مشلول، ولا يكاد يملك “شروى نقير”، ومع ذلك متزوج ولديه أبناء.. قلّبت الأفكار التي أضافت طعمًا جديدًا للقات، الذي أمضغه، و”النارجيلة” التي أنفخها.. ترامى صوت سعال من صوب الأسرّة الحديدية القابعة في الخلف.. لعله عامل (رنج) ألهبت رائحة الطلاء صدره.. أو شاقٍ ألهبت الأتربة رئته، وصوت رجل يحادث جليسه، ويبدو أنه يناقش موضوعًا سياسيًّا.
– يا عزيزي كلهم ملاعين، لصوص، منافقون.
استأنفت الحديث مع الرجل، ولكن باهتمام أكبر.
– ماذا عن ابنك الأكبر؟.. ألا يعنيك؟.. أعني، بما أن لديه وظيفة.
– كلا، فلديه أسرة وأطفال، مسكين، يعاني كثيرًا، أعانه الله على التكفل بما معه.
كيف أسأله عن الزواج؟ ومَن قبلت به، وهو على هذه الصورة..!!
– في أيّة سنة اقترنت بأم الأولاد.. ما شاء الله؟
– تزوجت في الخامسة والعشرين، تأخرت عن أخويّ.. أحدهما يكبرني والآخر يصغرني بعامين.. قام الوالد – رحمة الله – بتزويجهما، أما أنا فقد كان يلهيني، يؤجل، يتحجج.. رحمه الله لم يجرؤ على أن يخطب لي.
قالها بنبرة محايدة جدًّا.
– فكيف إذًا تزوجت؟
– ربك سهّل.. بعد رحيل الوالد ببضعة أعوام تُوفي أحد سكان القرية، كان له بنت وحيدة، يتيمة الأم، فأضحت يتيمة الأب أيضًا من بعده.. لم يجد لها وليًّا ولا عائلًا.. مازلت أذكر اليوم الذي وفد اثنان من عقلاء القرية إلى بيت الوالد.. كان الوقت صباحًا، وكنتُ وأمي نتناول الإفطار، (شيء من خبز التنور مع “سحاوق جبن”)..
تنهّد بعمق:
– فليرحمك ربي يا أمّاه.. كانت ملاذي، تخشي عليّ، ودومًا تراعيني، أحيانًا كنتُ أُغضبها فتزوّر، وتقول بغلطة:
– اغرب عن وجهي يا شيطان..! .. رحم الله المسلمين جميعًا.. لاح على شفتيه شبح ابتسامة.
– المهم.. سمعنا وقع خطوات من الدرج الهابط المؤدي من الطريق إلى بيتنا فأجفلنا طُرق الباب؛ ففتحت أمي واستقبلتهما.. ناقشا الموضوع معي ومع أمي من وراء ستار.. لم نحتج وقتًا للتفكير؛ الهدف هو الستر، وكان خيرًا لي ولها.. ثم حِرنا فيمن يكون وليها في النكاح، فما وجدنا غير عمّ مُهاجر لم ير بلده منذ 30 سنة.. وما أن توصلنا إليه حتى أعرب عن موافقته، وبعث وكالة شرعية لأحد الكبار في القرية..
– جمر؟
قاطعنا عامل المقهى كي يستبدل الجمر على “النارجيلة”.. أخذت أمضغ كلام المتسول مع القات، أنفخ دخان المعسل بكثافة، كأنه يتولد من قمة رأسي.. تفرست في وجوه الجالسين قباليّ، ملامح قُدّت من شظفٍ وأٌسقيت عناةً.. صف من الرجال متكئين بفوطهم ومعاوزهم، بعضهم يرتدون سترات مغبرة، منهم من عصب شالاً على رأسه، ومنهم من ألقاه على كتفه، الكثير منهم ساهِمون في ما يخبئه الغد من ديون ومسؤوليات وكبَد..
– ألا لعنة الله على كل سارق..!
وما يزال أخونا المتحمس يُبدي آراءه.. باب دورة المياه يُفتح ويُغلق مع الداخلين والخارجين، ما أن يُفتح حتى يصلنا أثر رائحة مقززة وتتلاشي حالما يُغلق.. ممتنٌ كنت لروائح الدخان التي كانت تطغى على مهرجان الروائح هنا.
– وإلى الآن ما زلتُ مستقرًا مع تلك الفتاة؟
– أحمد الله.. لا أقصّر معها ولا تُقصّر معي، ليس لأحدنا سوى الآخر.. مستورين.. عندما أكون عندها لا ينقصني شيء.
– تقصد أنك تبيت هنا وهناك في بيت الوالد؟
– كلا، بل أبيت هنا قريبًا من مكان عملي، وعندما أحتاج للراحة أذهب لرؤية زوجتي وأولادي في بيتي عند أطراف المدينة.
بالطبع هناك “الكِراء” أرخص؟
البيت باسمي.
باسمك، يعني ملكك؟
هو كذلك.
ورّثته أمي..
عمّرته منذ فترة.. متواضع على قدر الحال.. اللهم لك الحمد..
وكأنه قرأ علامة الاستفهام في قسماتي، فوضّح:
ربّك..
مشيرًا بأصبعه إلى الأعلى..
ذات مرة، وأنا منهمك في العمل بجانب سوق القات الكبير، وفي ذروة الرمضاء، مر بي أحد الخيرين؛ فجاد عليّ بشيء من مال الله، ثم وقف على مقربة مني وأخذ يتمعّن فيّ، ويطيل النظر.. ثم دنا مني، ولم يكن حولنا أحد.. قال لي: “يا حاج: هل لك في أداء فريضة وقضاء مصلحة؟”، نظرتُ إليه في عدم فهم، فأضاف: “حج وبيع مسابح يا حاج؟!”، لم أستوعب، فمضى الغريب يشرح لي مشروعه ببساطة، أن أذهب إلى مكة لأداء الحج، تقع على عاتقه مسؤولية استخراج الجواز والتأشيرة ونفقات السفر، وعلى أن أؤدي الفريضة، ثم أعمل جاهدًا لجمع أكبر قدر ممكن من مال.. ثم أعود وأقتسمه معه.
فذهبتُ وعدتُ بما يكفي لبناء بيت.
ذهبتُ مرتين.. كان المبلغ في الأولى أكبر منه في الثانية، تدبرتُ الأمر لتغطية بقية التكاليف فيما بعد. هو بيت متواضع على أي حال..
وِلمَ لم تمضِ على نفس المنوال كل عام؟
صدر ذلك القانون الذي يُقيّد حج البيت كل خمس سنوات.. كما أن شريكي اختفى.. لا بأس.. مستورة.
غرقتُ في الأفكار من جديد.. يا لها من مقابلة..!، مَن كان يظن أن لذلك العجوز كل هذا الحظ؟
عن إذنك أخي، سأذهب لأغتسل؛ استعدادًا للنوم.. عليّ الاستيقاظ باكرًا للبحث عن قوت العيال.. المعذرة.
تفضّل يا عمي، وتشرّفنا.
حياك الله.
لوّح بيده بطريقة خاصة برز على إثرها الصبي ذو (الكاب) المنكّس.. وبطريقة آلية تحرك نحو أبيه حتى إذا بلغ موضعه استدار مُحنيًا ظهره..
إلى اللقاء.
وكأنه فارس من الجان يمتطي جواده، غاب في الزحام.. في الحقيقة لم أشعر برغبة في المكوث أكثر، وقد غادر جليسٌ قضيتُ معه وقتًا لا بأس به.. ظل المشهد كما هو عندما بارحتُ المكان: الدخان العالق، التلفاز الناعق، الوجوه الساهمة.. قبل أن أجتاز العتبة سمعتُ المحلّل الألمعي:
“يا حبيبي دعك من هذا الهراء، كلهم أوغاد.. كلهم”.. إلى أين اتجهت؟، إلى حيث يتوجه شابٌّ مفلس، عاطل، لا مأوى له..!!
تعليقات