Accessibility links

إعلان
إعلان

رستم عبدالله*
اسمي سليم، كاتب قصص مغمور أو مشهور حسب ما  يحب البعض تسميتي في تعليقاته في عالم التواصل الافتراضي، فمن يمدحك بما ليس فيك حتمًا يشتمك.

قررتُ أخيرًا الردّ على إلحاحكم واستفساراتكم، عن شيطان القصص الذي يلقنني تلك القصص المرعبة بالنسبة لكم، وجعلني أنيخ برحالي في وهاده.

كان ذلك منذ زمنٍ بعيد…

ذات عناءٍ من العام 1988م حدث قحط وجدب شديدان في قريتنا، جفت الآبار، وفرغت خزانات المياه تمامًا من محتواها، ومات الزرع، واكتست القرية بثوب البؤس، كانت نسوة القرية يذهبن لجلب المياه من مكانٍ بعيدٍ جدًّا، من وادٍ سحيق، يُسمى (الوادي البعيد)، ذلك الوادي النائي والموحش الذي استحق اسمه عن جدارة، والذي يقعُ بين جبلين شاهقين، ويبعدُ كثيرًا عن القرية، كان ذلك الوادي هو الموئل الأخير الذي يروي عطش القرية.

كانت أمي وأختي الكبرى تذهبان لجلب الماء في الغبش، قبل أنْ يداعبَ الفجر جفون القرية، كانت أمي تأخذ معها (دبتين) صغيرتين سعة 5 لترات، وتقومُ بتعبئتهما من البئر، وتتركها تحت شجرة عجوز ضخمة وارفة الظِّلال بقرب البئر.

كنتُ أستيقظُ متأخرًا، وقد عادت أمي وأختي، وأنتبه على صوت أختي تناديني لتناول طعام الإفطار، وعبثًا تفشلُ كلّ محاولات أمي في استرضائي لجلب الدبتين، وأنطلقُ في مروج وشعاب القرية لألهو وألعب، وهي تتوعدني وأعود في موعد الغداء أتناولُ غدائي على عجل، وأُعاودُ الكرة للهو، ورغم استغراقي في اللعب واللهو الطويلين، إلا أنني كنتُ وأترابي نُحدِّد ساعة أذان العصر بمثابة إنذارٍ نهائي لنا، إذ كنا نُصلّي صلاة العصر جماعة مستقلة في أحد الحقول، وننطلقُ بسرعة البرق للوادي البعيد، ورغم طول الطريق ومشقته، إلا أننا ننجحُ في التغلب على المسافة والوقت، ويحضرُ كلٌّ منا ما تركته له أمه.

في إحدى المرات، وفي الميعاد المحدد..

– أنا: مرحبًا، هيا بنا يا عمر.

– عمر ساخرًا: اليوم لا يوجد لديّ ماء.. أمي قالت اليوم راحة.

– أنا: وأنت يا غانم؟

غانم: لقد ذهبنا الصباح أنا ونجمي، وأتينا بمائنا.

بهتُّ ورديت بعد برهةٍ غاضبًا: هذا غدر! لماذا لم تخبروني؟!

عمر شامتًا: اتفقَ الأولاد أنْ يعملوا لك مقلبًا، فاذهب لوحدك الآن..

تغشّاني همٌّ ثقيل، وترقرقت الدموع في عينيّ، وشعرتُ بقهرٍ مرير، وبغصةٍ تشلّ حلقي، حينها عرفتُ أنه مقْلبٌ من تدبير الرعديد عمر، إنه دومًا يحسدني ويدبّر لي المشاكل؛ لتفوقي الدراسي، ولتوبيخ أمه المستمر له؛ لإهماله، وها هو يستغل العطلة المدرسية ليورّطني.

لم يكن هناك من داعٍ لإضاعة الوقت الثمين معهم، فالمسافة بعيدة وشاقة، وأنا بحاجةٍ لكلّ دقيقة، طبعًا لن يكلف أحد منهم نفسه عناء المجيء معي.

انطلقتُ أعدو كالمجنون، تحولتُ إلى آلة عدو لا تتوقف، حتى أنهكني التعب، وارتميتُ تحت صخرة ضخمة، لأخذ قسطٍ من الراحة، كانت أنفاسي تتهدج، تبقت لي نصف المسافة تقريبًا، وأصلُ الوادي اللعين، هذا هو الاسم الأجدر به، نهضتُ ولملمتُ تلابيب روحي، وحثثتُ الخطى دون جريٍ هذه المرة، فقد استهلكتُ قواي تمامًا.
وصلتُ لحافة المنحدر المؤدي للوادي البعيد، شممت رائحة خطر تفوحُ من قِبَله وراح الخوف يتلبسني من رأسي حتى أخمص قدمي، كانت تمتدُّ الأحجار المرصوصة بإتقانٍ من الأعلى لأسفل الوادي الكريه، لفحتني زفرة من الرعب، تشرّبها جسدي المهيأ بسهولة كقطعة إسفنج تنقع بين الماء، وضعتُ مترددًا  قدمي ببداية الدرِج، واللتين كانتا تصطكان وترتعشان بعنفٍ كمحكوم عليه بالإعدام يُساق عنوةً لحبل المشنقة… أخذتُ أهبطُ بوجلٍ وعقلٍ زائغ، كان السكون يلفّ المكان إلا من أصوات حفيف أوراق الأشجار.

سرَت قشعريرة باردة في جسدي الصغير، أوهام وتخيلات كثيرة تتصورُ في مخيلتي المضطرمة، كنتُ أتلفت خلفي قلقًا باستمرار ولم ألحظ شيئًا… وفي أعلى الوادي للجبل المقابل كانت هناك مغارة سوداء مظلمة، فاغرة فمها، تصورتها كوحشٍ يريدُ ابتلاعي، وتارة يُهَيّأ لي وحشٌ يربض بداخلها، ما يلبثُ أن يظهر ويهرول نحوي؛ ليفترسني.

راحت المخاوف تسلكُ بي طرقًا شتى، لكن حتى اللحظة لم ألحظ شيئًا، بعد ذلك أنزلتُ عينيّ من على المغارة بحذر، أبحثُ عن (الدبتين)، أبصرتهما من بعيد، هرولتُ نحوهما، بجنونٍ أخذْتهما وعدت القهقري نحو الدرج، وعيناي ترمقان المغارة بتوجُّس، وعندها أحسستُ فجأة بشعر رأسي ينتصبُ وقدماي ترجفان، لأمرٍ لا أعلم كنهه، ثم اصطدمت عيناي  بمجموعة من الأحجار الضخمة والحصي تتدحرجُ باتجاه قاع الوادي، وترتطمُ بها بعنفٍ على بضع خطوات مني، حددتُ نظري باتجاه المغارة، محاولاً سبر أغوارها، متوقعًا الأسوأ.

ويا إلهي شعرتُ بالندم؛ لأنني لم أمشِ لحال سبيلي، المغارة تُعاقبني لتلصصي، ما الذي حدا بي لأبحث لنفسي المفزوعة عن المخاوف؟ شاهدتُ عددًا من العيون تلمعُ في الظلام، وتُصوِّبُ نظراتها النارية نحوي، كأنها كشافات دراجة بخارية، ازدرتُّ لعابي الجاف بصعوبة، وقبضتُ على الدبتين، وحاولتُ أحث الخطى وأصعد، لكنّ قدماي كانتا تثقلان وتثقلان، وتنتقلان بصعوبة بالغة كأنهما مكبلتان بأغلالٍ حديدية، كنتُ أستشعرُ وجعًا شديدًا في ظهري، لعنتُ في قرارة نفسي أصدقائي، وحلفتُ بأغلظ الأيمان أنْ أقاطعهم، وأعتزلُ اللهو معهم.
أعتقدُ أنّ قطراتٍ دافئة من البول بدأت تتساقطُ على بنطالي.. لا أعرف كيف نجحتُ في بلوغ حافة الوادي للضفة الأخرى حيث الطريق المستوي عرضيًّا. كان الظلام قد بدأ ينشر سحائبه السوداء بسرعةٍ مخيفة، يا الله كم استغرقَ تسلّقي الدرج!! نزلت والدنيا ضياء لأصعد وهي تتشحُ سوادًا، أم أنني أخطأتُ الطريق وصعدتُ لعالمٍ آخر مظلم، هكذا راحت الوساوس تعتملُ في قلبي الصغير، وقبل أنْ أبدأ بالجري باتجاه القرية، قررتُ أنْ ألقي نظرة أخيرة على المغارة.

نعم لم أتعلم الدرس بعد، إنها غريزة الخوف.. من جاور الخوف أمن، وقبل أنْ أُكْمل استدارتي لأواصل طريقي لحال سبيلي، كان لا بُدّ أنْ أدفع ضريبة باهظة لبحْلقتي الفضولية غير المبررة لفم المغارة الشنيع، أحسستُ بخطرٍ محدقٍ يتربصُ بي، وأنفاس حارة وكريهة قوية تلفحني، وأصوات وحوش تزأرُ خلفي.. صلصلت أذناي، وصار جسدي يرتجفُ ويرتعشُ لا إراديًّا بعنف، وكأنه تعرض لصعقة كهربائية قوية، وفتحتُ فمي لأصرخ بأعلى صوتي، لكن لم يكن يخرج من فمي سوى جعجعات وتنهدات كتنهدات طفلٍ صغيرٍ نهرته بغضب، وفيما أنا بذروة محاولات الصراخ اليائسة والمكتومة تلك، تفاجأتُ بيدين مخيفتين وبشعتين كأنهما ذراعين آليتين، امتدتا من خلفي تسحبان مني الماء بقوةٍ آلمتني، وقبل أنْ أستوعب الأمر، تلقيتُ رفسة عنيفة بظهري وخررتُ مغشيًّا عليّ، ولم أشعر بشيء بعدها، إلا وأنا فوق سريري بدارنا، ورحتُ أطالع الوجوه المبحلقة في شخصي بحيرة، بعينين تاعبتين وداكنتين.

– حمدًا لله على سلامتك يا سليم! أهكذا تقلقنا عليك؟!.. هكذا نطقها أبي بفرح!

وراحت أمي وأختي يحتضناني، ويجهشان بالبكاء.

كانت الغرفة مكتظة بالأهل والجيران والأصدقاء، وشاهدتُ في طرف الغرفة ثلة الأوغاد تتوارى، مسربلين مكسوين بالذل والخجل.. جاهدتُ لاصطناع شجاعة زائفة، لكن خانتني نفسي، وانفجرتُ بالبكاء، صارخًا: الوحش.. الوحش.. الماء..

نطقَ عمي أحمد محاولاً تهدئة روعي: مرحبًا بسليم البطل، لقد لحقناك أنا وأبوك  في الوقت المناسب، لا تخف، لم يكن وحشًا، لقد كان قردًا ضخمًا ظمآنًا، اختطف منك الدبتين ليشرب، يبدو أنّ موسم الجفاف أيضًا قد عمّ الغابات البعيدة التي يسكنونها، ونزح هو وجماعته للبحث عن الماء في الوادي البعيد واستقروا في تلك المغارة المهجورة بقرب البئر.

ومنذ ذلك اليوم صارت تُراودني كوابيس كثيرة، فرحتُ أفرغها لكم كقصص.

 

قاص وروائي يمني

   
 
إعلان

تعليقات