وضاح عبدالباري طاهر*
كتاب «الهويات القاتلة: قراءات في الانتماء والعولمة»، لللأستاذ الكاتب المعروف المفكر أمين معلوف، ترجمة د. نبيل محسن. يقع الكتاب في 143 صفحة بالقطع الصغير.
أنجب لبنان البلد الصغير حجمًا، الكبير قدرًا ووزنًا، كثيرًا من أبنائه العظماء الذين أسهموا في نشر الثقافة العربية، وكانوا روادًا في كثير من مجالات العلم والأدب والفكر والترجمة.
إن معلوف العربي الأصل، المسيحي الديانة لا يتنكر لوطنه الأول ولا للغته، أو ديانته إلا أنه أيضًا لا يجحد فضل بلده الثاني فرنسا الذي أضافه، واستقر فيه منذ زهاء اثنين وعشرين عامًا يشرب ماءها ونبيذها، ويكتب كتبه بلغتها، وهي لا تبدو غريبة بالنسبة له كما هو حال كثير من العرب الذين هاجروا إلى بلدان أوروبا بسبب الخوف أو الفقر أو غياب الأفق، وعجزوا عن الاندماج في تلك البلدان، وعانوا أصنافًا من الشعور بالاغتراب والوحدة وعدم القدرة على التكيف.
إن من المفارقة أن تكون الكتابة عن هذا الكتاب القيم في الوقت الذي تحدث فيه مظاهرات واحتجاجات في فرنسا بسبب قتل شرطي لشاب فرنسي من أصل جزائري، ما ترتب عليه من غضب وأعمال شغب في مدن فرنسية عدة، وقد نجد في هذا الكتاب القيّم جوابًا لِما يحصل ولماذا يحصل.
يقول معلوف مجيبًا عن سؤال لطالما سُئِل عنه: “منذ أن غادرت لبنان في عام 1967 لأستقر في فرنسا، سئلت مرات عديدة بأفضل ما في العالم من نوايا: إن كنت أشعر أولاً أنني فرنسي أو لبناني، وكنت أجيب دائمًا: “هذا وذاك”.
ليس من قبيل الحرص على التوازن والمساواة، وإنما لأنني إن أجبت بشكل مختلف لكذبت. إن ما يجعلني نفسي، وليس شخصًا آخر هو أنني بهذا النحو على تخوم بلدين، ولغتين أو ثلاث، والعديد من التقاليد الثقافية. هذا بالضبط ما يحدد هويتي”.
إن ما يجعل أمين معلوف كاتبًا إنسانيًّا هو تساميه عن كل التفضيلات القومية، أو الدينية، أو العرقية التي يتمحور حولها الكثير منا، ويرفعها كأساس وحيد محدد لهويته، يتعصب لها، وقد يصل به الحد أن يقتل من أجلها.
وهنا أتذكر ذلك الشاعر العربي القديم ذي النزعة الإنسانية حين قال:
إذا كان أصلي من ترابٍ فكلها * بلادي وكل العالمين أقاربي
يقف معلوف تجاه رؤيتين متطرفتين في البلد المضيف، الأولى رؤية بعض المهاجرين الذين يعتبرون هذا البلد صفحة بيضاء يمكن لهم أن يكتبوا فيها ما يحلو لهم، أو أنها أرض بور يمكن لكل أحد أن يستقر بأسلحته وأمتعته دون أن يغير شيئًا من تصرفاته وعاداته.
والثانية: من يعتبر أن البلد المضيف أرضًا وضعت قوانينها، وقيمها، ومعتقداتها، وخصائصها الثقافية والإنسانية مرة وإلى الأبد، وليس على المهاجرين إلا مواجهتها.
لكن معلوف يشيد بأولئك الذين يتمتعون بحس سليم ممن يتقدمون خطوة للأمام على أرض التفاهم البديهية، وهو أن البلد المضيف ليس صفحة بيضاء، ولا صفحة مكتملة، إنه صفحة قيد الكتابة.
يرى معلوف أن الهوية لا تعطى مرة وإلى الأبد؛ إذ إنها تتشكل وتتحول على طول الوجود، كما يتحدث أيضًا عن خطورة أن يختزل المرء الهوية إلى انتماء واحد فقط، وأن ذلك يدفع بالبعض نحو تبني مواقف متحيزة ومذهبية ومتعصبة ومتسلطة، وربما انتحارية أيضًا، ويحولهم في أغلب الأحيان إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة، كما أن رؤيتهم مواربة ومشبوهة، فالذين ينتمون لجماعتنا ذاتنا هم أهلنا الذين نتضامن مع مصيرهم، وقد نكون طغاة معهم، فيما لو رأيناهم فاترين تجاه ما نعتقده، فنرهبهم ونعاقبهم بوصفهم خونة ومارقين.
أما الآخرين الموجودين على الضفة الأخرى، فلا نفكر أن نضع أنفسنا مكانهم، ولا يدور بخلدنا أن نتساءل فيما لو كانوا غير مخطئين.
إن ما يهمنا هو فقط نظر جماعتنا، والتي غالبًا ما تكون هي وجهة نظر أكثر الناس تشددًا في الجماعة، وأكثرهم ديماغوجية.
ويرى معلوف أننا ما إن نتصور هويتنا بوصفها مكونة من انتماءات متعددة، ونرى في ذواتنا وأصولنا ومسار حياتنا تقاطعات ومساهمات وتهجينات ومؤثرات متنوعة ودقيقة، حتى تتولد لدينا علاقة مختلفة مع الآخرين، وكذلك مع قبيلتنا، إذ لم يعد هناك “نحن”، و”هم”، أي جيشان مستنفران يستعدان للمواجهة الوشيكة، والثأر القريب. بات يوجد في جانبنا أشخاص أشترك معهم بأشياء قليلة جدًّا، وإلى جانبهم أشخاص أستطيع أن أشعر أنني قريب جدًّا منهم.
ثم يقول: “ولكن بالعودة إلى الموقف السابق يمكن أن نتخيل كيف يُدفع الرجال إلى أسوأ أنواع التطرف؛ إذا كانوا يشعرون أن “الآخرين” يشكلون تهديدًا لأثنيتهم أو ديانتهم أو وطنهم، فكل ما يستطيعون القيام به من أجل رد هذا التهديد يبدو لهم مشروعًا تمامًا، حتى عندما يصل بهم الأمر إلى حد ارتكاب المجازر. يكونون مقتنعين أن الأمر يتعلق بإجراء ضروري من أجل الحفاظ على حياة أقاربهم، وبما أن كل الذين يدورون في فلكهم يشاطرونهم هذا الشعور يشعر الجزارون بأنهم أصحاب ضمير حي غالبًا، ويستغربون عندما ينعتونهم بالمجرمين، يقسمون أنهم ليسوا مجرمين؛ لأنهم لا يسعون إلا إلى حماية جدتهم (كذا وردت! ولعل الصواب بني جلدتهم) وإخوتهم وأطفالهم”.
إن الشعور بالتحرك من أجل الإبقاء على حياة أهلهم هي الميزة المشتركة لكل الذين ارتكبوا خلال السنوات الأخيرة في مختلف الكرة الأرضية من راوندا إلى يوغسلافيا السابقة الجرائم الأكثر بشاعة”.
ثم يختم ذلك بقوله: “إننا لا نعرف أين يتوقف التأكيد المشروع للهوية، وأين يبدأ التطاول على حقوق الآخرين؟ ألم أقل منذ قليل إن كلمة “هوية” صديق مزيف، فهي تبدأ بالكشف عن تطلع مشروع، وتصبح فجأة أداة حرب”.
هذا الكتاب جدير بالقراءة والاقتناء والعودة إليه بين الحين والآخر، خاصةً عندما تدفعنا الظروف مثل التي نعيشها اليوم إلى العودة إلى الهويات التي تقتل ثم لا تحيي.
* كاتب يمني.
تعليقات