Accessibility links

قراءة في كتاب “أيامي في الجزيرة العربية: حضرموت وجنوب الجزيرة” 1-2


إعلان

وضاح عبدالباري طاهر

«أيامي في الجزيرة العربية: حضرموت وجنوب الجزيرة»، للكاتبة البريطانية دورين انجرامز، ترجمة الأستاذ نجيب سعيد باوزير. طبع الكتاب بمكتبة الصالحية للنشر والتوزيع، عام 2011م.

ويقع في 251 صفحة بالقطع المتوسط. والكتاب مهدى إلى رجال ونساء حضرموت، يليه اقتباس نص لجولين برايان. “عندما تكسر رغيف الخبز مع الناس، وتشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، فإن حواجز اللغة، والسياسة، والمعتقد سرعان ما تتلاشى”.

وفعلاً، فبعد قراءة دورين في رحلتها، فإنك ترى البعد الإنساني والأخلاقي يتجليان بشكل واضح في سلوكها، ومواقفها السياسية المناهضة للنزعة الاستعمارية البريطانية، ووقوفها مع القضية الفلسطينية، ونقدها لسياسة بلدها بريطانيا تجاه العرب والفلسطينيين، وتحميل المسؤولين البريطانيين المأساة التي حدثت في فلسطين، وذلك من خلال كتابها «وثائق عن فلسطين 1917- 1922». (انظر: مقدمة ليلى انجرامز، ص17).

ويتجلى ذلك أيضًا في دورها التأسيسي وعضويتها في مجلس التقارب العربي – البريطاني (CAABU)، وقد خدمت لسنوات في لجنته التنفيذية.

إن جهود السيدة دورين أثمرت ندوات، وأحاديث في هيئة الإذاعة البريطانية، وفي منظمات متعددة، وأبحاثًا كثيرة نُشرت في الجمعية الجغرافية الملكية، والجمعية الآسيوية الملكية، وصحيفة الشرق الأوسط، ومجلة الجمعية المساندة للأمم المتحدة، وتحدثت – من خلال هذه الصحف والمجلات – عن فلسطين والفلسطينيين، وأبانت مدى الظلم الذي نزل بهم، كما تحدثت من خلال قربها من المحيط الاجتماعي في حضرموت والبلاد العربية، وبشكل خاص من النساء، عن الأفكار الخاطئة التي يحملها الغربيون عن المرأة العربية.

ودورين هي زوجة المستشار السياسي المقيم هارولد انجرامز الذي بدأ حياته العملية بوظيفة في إدارة المستعمرات، ومساعدًا للمفوض البريطاني المحلي في جزيرة «بيمبا» بزنجبار، وهناك تعلم وأتقن اللغة السواحلية، ثم بدأ بعدها تعلم العربية.

أما دورين، فقد بدأت حياتها ممثلة على خشبة المسرح، وأدت دورها بنجاح في مسرحيات شكسبير، الأمر الذي هيأ لها الاحتكاك بدوائر اجتماعية كانت تفضل أن تقترب منها.

تذكر ليلى انجرامز ابنة دورين أن هارولد ودورين قبل سفرهما إلى عدن حضرا دورة مكثفة في اللغة العربية في كلية الدراسات الشرقية بلندن، كما تلقت دورين دروسًا في المحادثة باللغة العربية في عدن والمكلا، وقد اكتسب الاثنان كذلك معرفة جيدة باللهجة المحلية مكنتهما من أن يحتكا بالحضارم، ويَخبرا كثيرًا من عاداتهم وطرائق عيشهم، حتى أصبحا يشعران أنهما ينتميان إلى البلد الذي يعشيان فيه.

تقلد انجرامز منصب مسؤول الشؤون السياسية، ولم يلبث إلا قليلاً حتى قام هو وزوجته دورين بأول زيارة لحضرموت التابعة في ذلك الوقت لمحمية عدن الشرقية في الفترة 1934 – 1935م، بناءً على طلب الحاكم السير برنارد رايلي.

استقلا سفينة بخارية متجهين إلى المكلا، وبعد أن قضيا خمسة أيام فيها، شرعا في رحلتهما الاستكشافية التي استغرقت تسعة أسابيع، متنقلين بين الجمال تارة، والحمير تارة أخرى، حتى وصلا إلى أراضي قبيلة الصيعر شبه المجهولة بالنسبة للأوروبيين، وفي هذه المدة زارا تريم وسيئون، ثم انطلقا عبر وادي المسيلة الذي لم تطمثه قدم أوروبي من قبل.

لقد جمع كلٌّ من انجرامز ودورين تقريرًا تفصيليًّا يعد الأول من نوعه عن حضرموت، ويعتبر مادة شاملة عن الحكام، والتقسيمات القبلية، والسكان، والحالة الاقتصادية، والجغرافيا، والتاريخ الطبيعي، والآثار، مع وضع خرائط لمناطق واسعة لم يسبق أن وضعت لها خرائط من قبل (مقدمة ليلى انجرامز على كتاب أيامي في الجزيرة العربية، ص 13- 14).

بعد نشر هذا التقرير، قررت الحكومة البريطانية إجراء المزيد من البحث لمعرفة مدى إمكانية مساعدة السلطانين: القعيطي، والكثيري لتطوير دولتيهما، فعاد كل من هارولد ودورين إلى المكلا عام 1936، وتم لهما ما سعيا لأجله، ففي أغسطس عام 1937 وقّع السلطان القعيطي معاهدة استشارة مع حكومة عدن، وتلاه الكثيري بأشهر معدودة، ونصت المعاهدتان على أن يكون هارولد انجرامز أول مستشار للسلطانين، ووفقًا لهاتين المعاهدتين تعيّن على سلطاني حضرموت أن يقبلا بالمشورة التي يقدمها المستشار المقيم “في كل الأمور، ما عدا تلك المتعلقة بالدين الإسلامي، وعادات البلاد”.

لقد اندمجت دورين وزوجها في المجتمع الحضرمي، وعقدا صلات اجتماعية كثيرة مع كثير من الشخصيات الحضرمية الفاعلة، وعلى رأسهم السلطانين: القعيطي والكثيري، والسيد المصلح الثري أبو بكر الكاف وعائلته، والذي تصفه ليلى انجرامز بأنه شخصية غير عادية، وقد بذل جاهدًا من أجل أن تنعم حضرموت بالأمن والاستقرار.

كما تصفه دورين بأنه كان محسنًا حقيقيًّا ينفق أمواله بسخاء من أجل إسعاد الآخرين ورفع مستواهم، وجريًا على هذه السنّة صمم على أن ينشئ طريقًا للسيارات من وادي حضرموت إلى الساحل، وكان حتى ذلك الوقت صرف مبالغ طائلة على العمال، وعلى رشوة القبائل حتى لا يقوموا بتخريب الطريق.

كما تتحدث ليلى انجرامز عن زوجته فاطمة، وتصفها بدماثة الخلق، وحبها للخير، وتنقل عن أبيها متحدثًا عنها: “هناك شخص واحد في حضرموت شبيه بالسيد أبو بكر ذلك هو زوجته”. (أيامي في الجزيرة العربية: حضرموت وجنوب الجزيرة 1934 – 1944م، دورين انجرامز، ترجمة نجيب سعيد باوزير، ص 15، و44).

اندمج هارولد ودورين في المجتمع الحضرمي، فكان هارولد يلبس خارج البيت «الفوطة» التي أهداها له السيد الكاف، كما كانت دورين تلبس الثوب المحلي باقتراح من السيدة فاطمة زوج الكاف.

تباحث انجرامز مع السلطانين القعيطي والكثيري، والسادة، وزعماء القبائل بشأن تحقيق السلام من خلال وضع هدنة لمدة ثلاث سنوات تلتزم بها جميع القبائل، وقد صادف هذا الصلح هوىً قويًّا في نفوس السكان الذين ضاقوا ذرعًا بالحروب، بما فيهم النساء اللاتي تولت دورين إيصال أصواتهن، من خلال تنقلها في مناطق حضرموت المختلفة، والتقائها بالعديد منهن.

كانت رسائل النساء التي أوصلنها من خلال دورين هي ضرورة توقيع وثيقة الصلح، ووضع حد للتضحية بالأزواج والأبناء في جحيم الحروب القبلية.

لقد جمعت دورين ما يقرب من 1400 توقيع من مختلف التجمعات القبلية، والذي عرف بـ «صلح انجرامز». (مقدمة ليلى انجرامز، ص16).

وقد ساهم هذا الصلح المدعوم بسلاح الجو، والعقوبات الاقتصادية في حال انتهاكه، ساهم في استتباب الأمن، وكان من أهم نتائجه إبرام المعاهدة بين السلطانين: القعيطي والكثيري في فبراير عام 1939م، واتفاقهما على التعاون فيما بينهما، وتطور الخدمات في مجال الصحة والتعليم والزراعة والاتصالات. (أيامي في الجزيرة العربية، دورين، ص178، وإحلال السلم في حضرموت، عبدالعزيز القعيطي، ص76).

ومع ذلك، فقد كان تحقيق الهدنة في حضرموت مفيدًا بشكل رئيس لتأمين خطوط الإمبراطورية البريطانية، بعد أن صار من المؤكد أن الحرب العالمية الثانية بدأت بالكشف عن ساقيها، بالإضافة إلى ما رشح عن الوثائق البريطانية من رغبة بريطانيا في التنقيب عن المعادن والنفط، فقد تم العثور على بعض الصخور المغطاة بالنفط، ما يشير إلى وجوده في وادي حضرموت. وكل هذا يستدعي بسط ظلال السلام في حضرموت، وخلق حالة من الاستقرار فيه. (انظر: إحلال السلام في حضرموت، عبدالعزيز القعيطي، ص50). 

إن الفترة التي قضتها دورين في حضرموت مثلت شيئًا عزيزًا على قلبها، وقد ضمنت رحلتها التي استخلصتها من مذكراتها اليومية كثيرًا من المشاهدات والآراء عن هذا المجتمع الذي خبرته عن قرب.

وللسيدة دورين صبر وعزم كبيرين مكّناها أن تطوف كثيرًا من بلدان حضرموت على اتساع رقعتها، وتتعرف على كثير من الشخصيات الدينية والقبلية، وتشاركهم الطعام والأحاديث التي لا تخلو من عمق وتشويق.

لقد اختفى سنام جمل دورين الذي كانت تسير عليه في رحلاتها الطويلة، واستهلك كل الشحوم المخزونة بداخله، ومع ذلك لم ينفد صبرها، ولا وهن عزمها الذي تدرعت به طوال رحلتها في سبيل العمل الذي نذرت نفسها له.

هذه الصفات والخلفية المعرفية جعلتها تتمتع ببصيرة نافذة، وظن لا يكاد يخطئ.

وإليك أحد الأمثلة على ذلك، فبعد أن نال الجنوب استقلاله، وتكونت «جمهورية اليمن الديمقراطية»، أبدت دورين نظرة عميقة تجاه هذا البلد الذي يبدو في الظاهر أنه توحد، إلا أن هناك “ما يدعو – بحسب ما تقول – إلى الاعتقاد بأن الإمارات، والدويلات القبلية المتنافرة التي كانت تتكون منها ذات يوم محمية عدن، ما زالت موجودة في خلفية المشهد”.

                                                                  (للحديث بقية).

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات