رشيد النزيلي
العنصرية جزءٌ إشكالي في تركيبة أميركا، ولا يُمكِن إنهاؤها بجرّة قلَم أو إصدار قرار.
المسألة تحتاجُ إلى وقتٍ تتغيّرُ فيه الحال الاجتماعية للفرد، ومن ثَمّ المجتمع… فتغيير حال الفرد تعليميًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وحتى سكَنيًّا، يتم عبْر أجيال، وكلّ جِيل يُسهِمُ – بلا شكّ – في إحداث بعض التغيير، والانتقال للأفضل وهكذا؛ فالمسألة ثقافية واقتصادية في جوهرها، وفي تداخُل متشابِك يحتاجُ مزيدًا من الوقت لِتَجاوُز إشكاليته.
أريدُ القول – مما سبَق – إنّ العنصرية ليست مرَضًا يُمكِن التعافي منه بحُقنةِ وريدٍ وانتهى الأمر، العنصرية إشكالية عالميّة لها أشكال مختلفة، وموجودة في أفقر وأغنى الدول… والحلّ في أنْ نتعامل معها بشكلٍ حضاريٍّ عبْر القانون والدولة وإشراك كلّ مكونات المجتمع في صُنْع القرار؛ فهذا هو الحلّ الهادف للتقليل من تأثيرها؛ لكن لا يعني ذلك إلغاؤها، بل ستبقى موجودة باعتبارها إحدى إشكاليات العالم، غيْر أنّ ما نرجوه ألّا تكون مؤثرة ومحورية في توجُّه البلد والمجتمع، بل ألّا تكون قضية هامشيّة… وهذا التعافي المنشود، كما سبقت الإشارة، يحتاجُ لوقتٍ يعُمّ خلاله رخاء ثقافي واقتصادي، ولا يمنعُ ذلك مِن أنْ يأتيَ الوقت الذي تتراجع فيه العنصرية حتى تُصبِح في قَعْر الذاكرة الاجتماعية.
أتمنّى ألّا يفهم البعض أنني هنا بصدد الدفاع عن العنصرية؛ بل على العكس؛ فنحنُ نرفضها ونقفُ لجانب ضحاياها، لكن لو نظرنا بتجرّد لعنصرية أميركا ربما سنجدها أفضل (الأسوأ)؛ لأنّ مرجعية التحكّم بمصيرها صارت بيدِ الرأي العام، وليس بيدِ نُخبةٍ أو جماعة تنفردُ بالسلطة.
ما يجبُ أنْ يفهمه المتابِع للأحداث التي تشهدها الولايات المتحدة جراء وفاة (فلويد الأسود) تحت رُكْبة شرطي أبيض… هو أنّ أميركا المجتمع ليست أميركا السياسة؛ فهناك فرْقٌ كبير، وإلا لَما اختارها أغلبُ المهاجرين كموطِنٍ جديد.
عنصرية السكن
تتعدد مظاهر العنصرية في أميركا؛ فليست تلك التي تصلُ إلينا عبر وسائل الإعلام ؛ فثَمَة مظاهر ثقافية عِدّة؛ ومنها – مثلاً – ما يُمكِنُ تسميته بعنصرية السكن.. معروف أنه كلّما كنتَ تعيشُ في منطقة يقطُنها فقراء، كلما كانت خدمات مؤسسات الدولة بعيدة عنك؛ فعلى سبيل المثال: أنْ تعيشَ في مدينة ديترويت، فهذا شيء عادي، لكن أنْ تعيشَ في شرق المدينة القديمة القريبة من مدينة هامترامك، والمعروفة بالميل السادس؛ فهذا شيء آخر؛ فالجرائم والقتل وانقطاع الخدمات هناك يوميات تعيشها هذه المنطقة… وبالتالي فاختلاف منطقة السكن يفرضُ عليك نمَطًا مُعيّنًا من اليوميات تتجلى منها العنصرية.
عنصرية اللغة
للأسف الشديد أنّ للغة، أيضًا، إشكاليتها الخاصة في مظاهر العنصرية، فمثلاً إذا نشبت مشكلة في حيٍّ ما، وجاءت الشرطة وكتبت تقريرها، فستكتبه باللغة الانكليزية، وفي حال كنتَ لا تعرف اللغة الإنكليزية، فلن تستمِع إليك الشرطة ولن تستطيع قراءة ما ورد في تقريرها؛ إذ لا يوجد مترجِمٌ لك، كما ليس لدى الشرطة لغتان تتعاملُ بهما.
أذكُرُ أنّ المحامي الصديق – ربيع حموي سبق وطرح هذا الموضوع للنقاش بما يسهم في مساعدة المواطنين، خاصة في المدن التي يتواجد فيها العرب، ويحتاجون لمترجمين يستطيعون ترجمة الردّ على كلّ الأسئلة المطروحة التي سيتضمنها التقرير حول الحادثة.
كما سبق وطرح حلًّا لذات الإشكالية الصديق عبدالحكيم السادة قبل نحو (10) سنوات، عند تعيين العربي الأميركي اسماعيل أحمد وزيرًا للخدمات الإنسانية والصِّحية، ودعم حينها السادة طلبًا باعتماد اللغة العربية كلغة رسمية في ولاية ميشيغن، وعدم التعامل معها باعتبارها قضية هامشية.
عنصرية ضد المهاجرين
مما لا شكّ فيه أنّ المهاجرين الجُدد ربما هم أكثر مَن يواجهون العنصرية؛ إذ لا يستطيعون التنفُّس أو التعبير عن رفضهم أو قبولهم جراء ما يُمارَسُ ضدهم من عنصرية، وبخاصة من حيث العمل؛ فالخيارات أمامهم تكون محدودة جدًّا، لا سيما ولم يعد هناك أيّ برامج تساعدهم للخروج لسوق العمل واختيار عمل مناسب… “فمُجبرٌ أخاك لا بطل”؛ لذا يظلّ يعملُ في نفس المهنة إلى أنْ يأتيَ أولاده، ويتمّ تغيير المهنة.
وبعد..
كلنا خُلِقنا بالفطرة، ونحنُ نتعلّم كلّ يوم كيف نتميّز عن الآخرين، فجميعنا يُريدُ لحياته الأفضل دائمًا؛ وهذا طبيعي، لكن ألّا يكون ذلك على حساب الآخرين… هنا ستستقيمُ الحياة.
قال المفكّر الراحل كلوفيس مقصود، ذات يوم، في حديث معي، إنّ على المجتمع العربي المهاجر والجديد أن يكون مثل خميرة العجينة بعيدة عن كلّ الأمراض والعُقد النفسية التي تعاني منها أوطانهم.
وهذا يؤكّد ألّا يحملُ المهاجر مشاكل وأمراض وطنه الأصلي إلى هنا؛ فلا بُدّ له أنْ يتحرر منها ويعيش متخففًا من سلبيات ثقافته الأصلية، ويعانِق إيجابيات مجتمعه الجديد، خالقًا تجانسا وتناغمًا بين إيجابيات وطنه وإيجابيات مهجره، مبتهجًا بالتنوّع، مُحتفيًا بالتسامح والتعايُش.
أخلُص إلى أنه ما دمنا قد اخترنا أنْ نعمل ونعيش في مجتمع أغلبيته أميركيين من أصول أفريقية، فعلينا مشاركتهم أحزانهم وأفراحهم، ودعْم منظماتهم الدينية والخدمية، وأنْ نستفيد منهم ويستفيدوا من خدماتنا…. وأنْ نقدّر ما يرتكبه بعضهم من أعمال طائشة لا تليقُ بالدولة والمجتمع كالتخريب والنهب.
وقبل انصرافي؛ يجبُ ألّا ننسى أننا موجودون مع بقية الأقليات في بلد ديمقراطي دفَع ضريبته الأميركيون السود؛ ولولاهم لَما استقرينا هنا.
الحُلم الأميركي دائمًا يتعرض لِمنعطَف مؤقتًا، لكنه سرعان ما يعودُ ويستمرُّ؛ فهذا الحُلم أصبح قارب نجاة للجميع.. قاربٌ يحْملُ الجميع، ويسوده التنوّع والاختلاف والاحترام ومراعاة حقوق الآخر.
تعليقات