عبدالوهاب سنين*
اتّسَمَتْ الرواية ببناءٍ سردي متماسِك، ومن الناحية الفنية نجِدُ الكاتب ربّما أخَلّ بعض الشيء في بناء وتطور الشخصيات
رواية “حصن الزيدي” فازت ضمن جائزة راشد بن حمد، وصدرت عن دار نوفل/ هاشيت انطوان 2019م، وتقع في 252 صفحة.
في هذه الرواية حاول الروائي الغربي عمران الخروج من عباءة التاريخ القديم، وكأنّ هذا النِّتاج من نوع آخر، ولكنه – أيضًا – باقٍ في إطار التاريخ، إلا أنها مغايرة لأعماله السابقة الغائصة في جذور التاريخ المتقادِم، ومنها “ظلمة يائيل” و”مملكة الجواري”، ومع ذلك كان للتاريخ المعاصر في هذه الرواية حضورًا باهرًا، إذ جعل سطور روايته خلال حقبة زمنية تشملُ عهد الإمام يحيى، ووجود الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن، والكاتب لا يكتبُ لنا تاريخًا، بل يجعل منه مطية يتكئ عليها في سرد روايته، والحقيقة أنّ الرواية لا تأتي بتاريخ، وإنما تأتي وتُفصِحُ بما لا يستطيع أنْ يُفصِحَ به التاريخ، إذ أنّ الرواية بذلك تكون الأقدر على النفوذ والتوغل في طيّات المجتمع، واستنطاق ما عجز التاريخ عن البوح به، وهذا عيْن ما ذكَره “باختين”.
ويقول كالروس فونتيس: ((أعتقدُ أنّ الرواية تُمثّلُ تعويضًا للتاريخ؛ لِأنها تقول ما يمتنعُ التاريخ عن قوله))، والكاتب صاغ روايته في قالبٍ روائي اتّكأ على التاريخ الأقرب إلى الواقع المُعاش، ودومًا نراه في أعماله يُفصِحُ عن مسألة “التابو” (الدِّين والسياسة والجنس)، وهذه الثلاث حاضرة بقوة في هذه الرواية، وفيها تبرز قضية المهمَّشين المتمثّلة في قدرة المرأة على المضي قُدمًا مع الرجل في معترك الحياة التي تشترك فيها الأجناس، وعرّى الكاتب سطوة المشايخ القبليين والتحامهم مع التديُّن المتعالي ليس بقصد التديُّن، وإنما تواؤم المصالح المؤدلجة بسموم الراديكالية المتشددة، وفي هذه الرواية نجدُ حِرَفية التبئير التي وطّن الكاتب سطور روايته من خلال بؤرة وزاوية حددها الكاتب، حصر فيها إطار روايته، وذلك ملموس في الرواية التي تتناول تلك الأحداث من خلال مسرح الخيال، الذي تمتعت به الرواية، والتي تحملُ شِقّين؛ وهما: (الواقعية والخيال)، فبدون الخيال والفنتازيا يكون العمل الروائي أجوفًا رتيبًا يشعرُ معه القارئ بالملل؛ وإنْ كان هناك إفراط في توظيف الخيال، والخيال لا يكفي ما لم يكن على قدْر كبير من الإقناع كي يستطيع القارئ هضمه، ومع ذلك أستطيع القول، بلا مواربة أو تلميع، إنّ الكاتب حافظ على خيط السّرد في المسار الروائي.
البناء السّردي
اتّسَمَتْ الرواية ببناء سردي متماسك، ومن الناحية الفنية نجدُ الكاتب ربما أخلّ بعض الشيء في بناء وتطور الشخصيات، وأخُصّ مِن تلك الشخصيات (زهرة وقارون)، وكليهما لم ينل حقه البطولي، حيثُ كان القارئ يتطلع إلى تطور في شخصيتَي (زهرة وقارون)، اللذين من المفترض أنهما يمثلان القسم الثاني والثالث من الرواية، ومع ذلك كانت أحداث الرواية متساوقة، لا تخلو من الدهشة والمفارَقة.
الحبْكة
كانت الحبكة، نوعًا ما، فيها بعض الفجوات، حيثُ سيطرت الفنتازيا المفرطة على الكاتب، وذلك في مشهد تصويري لأحداث الحريق الهائل في الوادي، الذي تطاولت ألسنة اللهب في ذلك الوادي الرحب، حيثُ اتخذه الكاتب مسرحًا لأحداث روايته، واتخذ الشيخ وأعوانه حصن الوادي ملاذًا وسكنًا لهم، وأخذ ذلك الحريق الهائل جميع مَن يقطنون الوادي خلا أبطال الرواية الذين تتم ملاحقتهم، ومع ذلك صوّر الكاتب أحداث روايته تصويرًا لافتًا، وكأنك ترى أحداثًا سينمائية تشدُّ القارئ وكأنه خلف شاشة تُراقِبُ فيلما شيّقًا، غزير الإنتاج، وإنْ كانت بعض أحداثه اتسمت بالطوباوية والغرائبية، كما حدث في مشهد الحريق الآنف الذكر.
هدف الرواية
الكاتب له رؤية يرمي من خلالها لتصوير القُبْح بكلّ صوره الراديكالية، والبرغماتية، والدوغمائية، أما الراديكالية المتشددة أسقطها الكاتب على أصحاب العقائد المتشددة، ويلمسها القارئ في شخصية شنهاص – أحد العقائديين، وكذلك زيد – صهر الشيخ، وأما البرغماتية فكانت ظاهرة في شخصية مرداس، وولديه (عنصيف وجبار)، أما الدوغمائية يلمسها القارئ في رجال الشيخ، وهم عبارة عن أقماع تُصبُّ في آذانهم الأوامر، ويتعصبون لها، وتجدهم في حالة مزرية من الجمود الفكري، يسوسهم الشيخ مثل القطيع التي لا تعي ولا تُفكّر، وكلّ همّ ذلك القطيع إرضاء الشيخ.
كلّ هذا القبح وسلبياته اجتمع فيها جلاوزة ليس لهم همٌّ سوى المصالح المتبادلة فيما بينهم.. والويل والثبور لتلك الجوقة الكبيرة من المهمَّشين، الذين كلّ همهم العيش بسلام فيما بينهم، يتزاوجون بطريقتهم، ولا يرون إلا تطلعاتهم لحياة يعيشونها، ولكن تلك الأقطاب المتنفذة كانت تُجرِّعهم الحياة المتضرّمة بالقسوة ومرارة الحرمان.
أقسام الرواية
قسّمَ الكاتب روايته إلى ثلاثة محاور رئيسية:
1- مرداس في 125 صفحة.
2- زهرة في 123 صفحة.
3- قارون في 5 صفحات.
من خلال هذا التقسيم للرواية تخللتها شخصيات عديدة، ولكن هل التزم الكاتب بهذا التقسيم؟، الجواب: لا؛ إذا أتينا إلى القسم الثاني (زهرة) الذي من المفترض أنْ تكون شخصية فاعلة وأساسية، بينما الكاتب جعل منها شخصية باهتة، وأظهر شخصية ثانوية بحسب التقسيم المذكور، وهذه الشخصية تُسمى (شادن)، إذ طغَتْ هذه الشخصية الثانوية على الشخصية الرئيسية (زهرة)، حيثُ جعل منها الكاتب شخصية هزيلة تابعة لا متبوعة، وأطلق عنان البطولة لِشادن، وذلك من خلال دورها الكبير والنضالي لِمجابهة عنفوان الشيخ مِرداس ورجاله.
القسم الثالث والأخير (قارون): خصص له الكاتب خمس صفحات فقط، وفي تلك الصفحات ظهر قارون بشخصية سلبية أيضًا، وأنهك الكاتب تلك الشخصية، ولم يُظهِر من بطولتها سوى الجنس والإدمان على الكحول والعزف على المزمار، بينما كان المتوقَّع أنْ يقوم قارون بدورٍ أكبر بعد فراره من سجن الحصن التابع للشيخ مِرداس إلى عدن القابعة تحت الاحتلال البريطاني، وكان إقحام الاحتلال البريطاني في تلك الورقات الخمس غير مُجدٍ، أما مِنْ ناحية التقسيم كما أسلفْت، كان المفترض من الكاتب أنْ يقوم بترقيم تلك الأقسام بدون أسماء، ولو ترك للقارئ ترتيب البطولة في مسار الأحداث لَكانَ أجود، وليته اكتفى بالترقيم والقارئ سيكتشفُ تركيب تلك الشخصيات.
وفي الأخير هذه قراءتي للرواية، حيثُ تركْتُ نفسي على سجيّتِها عند قراءتي لها، وتركتُ قلمي يمضي في تدوين ما كان له بُدّ أنْ يدوّنه، ولستُ مجامِلاً ولا مداوِرًا ولا متحامِلاً، ولو كنتُ كذلك لقذفتُ بقلمي وجعلته قارًّا مفارقًا لِحبره، وتركتُ محبرتي تغوصُ في ظلمات بعضها فوق بعض.
كاتب يمني
تعليقات