عبدالباري طاهر*
بعد 68 عامًا على قيام الثورة المصرية والعربية – ثورة 23 يوليو – تنفجرُ في مصر الأسئلة المؤرقة والحارقة. عقب الثورتين: المصرية 52، واليمنية 62 دارَ نقاش بين الاتجاهات السياسية والفكرية، هل هما ثورتان؟ أو انقلابان؟.
مصطلح انقلاب – بغض النظر عن البداية والمسار- كان يعني الانتقاص. كان اليسار أميل لوصف الحدثين بالانقلاب، بينما كان القوميون أميل لتسميتهما بالثورة.
منذ تسعينيات القرن الماضي، وربما بسبب الانشغال على المعاني الفلكية أصبحتُ أميل إلى عمق دلالة مصطلح “الانقلاب”، وإيجابيته، وأفضله على مصطلح “الثورة”.
كمصطلحين مجردين بعيدًا عن الحدثين العظيمين: يوليو مصر، وسبتمبر اليمن، وبعيدًا عن شيوع الاستخدام السائد لُغويًّا، فمصطلح “الثورة” شائع وذائع في الحياة السياسية، وعلى كل لسان. وحقًّا ودائمًا في اللغة: خطأ شائع، ولا فصيح مهمل. وقد رجعت إلى جذر اللفظتين: “قلب”، و”ثار” في المعاجم الكبيرة؛ فزاد اقتناعي بعمق مصطلح الانقلاب أكثر من مصطلح الثورة، ولكن ذلك موضوع آخر.
الثورة المصرية
كانت حركة الجيش المصري 23 يوليو حدث القرن العشرين عربيًّا ودوليًّا، وسرعان ما تحولت حركة الجيش (الانقلاب) إلى ثورة شعبية، وامتد حريقها القومي إلى المنطقة العربية كلها من الماء إلى الماء. فداخل مصر كانت هزيمة الجيش في حرب 48 ضد إسرائيل بمساندة بريطانيا، وضعف القصر، وتصاعد معركة القتال ضد بريطانيا، وتواطؤ أحزاب الأقليات، وانقسام الوفد، وحريق القاهرة 26 يناير 52- هي الأسباب الرئيسية للثورة.
يرسم المفكر والباحث الماركسي الشهيد شهدي عطية الشافعي صورة للمشهد السياسي قبيل فجر حركة الجيش: “لم تكن الطبقة العاملة على درجة من الوعي والتنظيم تكفل لها قيادة المعركة الوطنية؛ فتعيّن ظهور قيادة جديدة – قيادة تُمثّل مصالح الاقتصاد الوطني، والأجزاء المتقدمة في الرأسمالية الوطنية. وكان مستحيلاً أنْ تظهر هذه القيادة من خلال الأحزاب التقليدية القائمة حينذاك؛ فحزب الأحرار الدستوريين يُمثل كبار الملاك – أي الإقطاع المتصل بالاستعمار والسراي، وحزب السعديين واقع تحت نفوذ كبار رجال المال الذين يكونون كتلة مع المستعمر، وحزب الوفد كان يُمثّل الرأسمالية الوطنية عندما كانت ضعيفة اقتصاديًّا، ثم ضعيفة بالتالي سياسيًّا، كما أنّ قياداته أخذ يتسرب إليها بعض كبار مُلاك الأرض، وأخذت تقع تحت نفوذ كبار رجال المال؛ فأصبحت أعجز من أنْ تقود المعركة الوطنية ضد الاستعمار والإقطاع والاحتكار”. (تطور الحركة الوطنية المصرية 1882 – 1956، شهدي عطية الشافعي).
الأمين العام للحزب الشيوعي المصري زكي مراد، وأحد قادة “حدتو” البارزين في كتابه «ثورة يوليو.. قضايا فكرية» كردّ على سؤال: ثورة وطنية شعبية؟ أم انقلاب عسكري؟، يرى أن الذين أجابوا عن السؤال بأنه انقلاب عسكري، بأن الأمر كله لا يهم الشعب العامل في شيء. مجرد صراع على السلطة بين فئات برجوازية مختلفة لا يطال الاستعمار والنظام القائم (الإقطاع، والرأسمالية). أما الذين أجابوا بأنّ ما حدث هو ثورة وطنية شعبية تصدرها الضباط باسم الشعب، وكانوا يرتبون على هذا التشخيص أن المعركة الكبرى مع النظام الاستعماري وحليفته الرجعية قد بدأت، وأنّ قضية هدم النظام القديم، وبناء النظام الجديد قد طرحت نفسها بكل قوة، وأنّ هذه الثورة هي الحلقة الظافرة في سلسلة ثورات هذا الشعب. (ثورة يوليو، ص 71 بتصرف).
ويرى مراد أن الحدث انفجار وطني عميق يُنفّذ من خلال انقلاب عسكري ينفذه متوسطو وصغار الضباط باسم الشعب. وينتقد المفكر الماركسي الجمود الماركسي لدى البعض في تقييم الحدث.
لا شك أن التفجير الوطني العميق – كتقييم المفكرين المهمين: شهدي عطية، وزكي مراد، واللذين شارك تنظيمهم عبر “حدتو” وبعض رموزها في صنعه – هو بداية التحول في المنطقة كلها؛ فقد كانا يدركان عميقًا فشل التيارات الليبرالية العاجزة عن التغيير، وتواطؤ أحزاب الأقليات كتوصيف شهدي، وأنّ الضباط الوطنيين بقيادة الزعيم العربي جمال عبدالناصر هي القوة المنظمة الوحيدة القادرة على التغيير.
المفكر د. أنور عبدالملك يشير في كتابه المهم «المجتمع المصري والجيش» إلى أنّ عجز الأحزاب الشيوعية العربية عن فهم أهمية الطريق الثالث إلى التقدم قد أدى إلى ضعفها، وهو – أي الطريق الثالث – أنموذج الثورة الوطنية، وتطورها الاجتماعي؛ وبسبب هذا العجز لم تدرك الطاقات الكامنة والمحتملة في ثورة 23 يوليو. كما يشير إلى عجز عن إدراك حقيقة القومية العربية المعبأة باحتمالات الوحدة، ولم ترَ في الوحدة إلا أنها مطلب من مطالب الرأسمالية لتوسيع أسواقها؛ وبالتالي فإن حركة الوحدة لا يمكن أن تحتوي مضمونًا تقدميًّا، كما لم يدركوا دور مصر في المنطقة العربية كقاعدة لا غنى عنها، وطبيعة أوجدتها ظروف تاريخية رحبة وعريضة، وذلكم ما فطن له أو تنبّه إليه الباحث السوري إلياس مرقص في كتابه «تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية»، وكتابه عن القضية القومية.
للثورة المصرية تأثير عميق واسع الاتساع. فإضافةً إلى الدوائر الثلاث التي تطرقت إليها فلسفة الثورة، فإن البّعد الدولي للثورة كان كبيرًا، وجعل من مصر مركزًا دوليًّا لعدم الانحياز، ولحركات التحرر في العالم.
لم يقتصر تاريخ ثورة يوليو على التيارات القومية حتى المعادية، وإنما امتد الأثر إلى الأحزاب الشيوعية العربية، وإلى تيار الإخوان المسلمين، ونلمسه في كتاب «الاشتراكية الإسلامية» لمصطفى السباعي.
ولعبت الثورة دورًا رائعًا في دعم استقلال العديد من البلدان الأفريقية والآسيوية وفي أمريكا اللاتينية، وكان تأثيرها على المجتمع المصري والعربي كبيرًا، ويعود للثورة المصرية، وللزعيم العربي جمال عبدالناصر الفضل في تحرير الجزائر، ودعم تحرر الجنوب اليمني، ودعم الثورة اليمنية، واستقلال دول الخليج، والدفاع عن فلسطين.
الثورة المصرية الرائدة – كأيّة ثورة من ثورات بلدان العالم الثالث – واجهت صعوبات وتحديات خطيرة تبدأ ولا تنتهي؛ فالثورة المضادة – المجتمع التقليدي، والتيارات السياسية المعادية في الحياة السياسية، وفي مجلس قيادة الثورة (مراكز القوى)، والتي كانت سببًا رئيسًا في الأخطاء الجسيمة الداخلية والخارجية، وصولاً إلى انقلاب السادات – هي الأساس في إعاقة الثورة.
ويقينًا، فإن غياب الديمقراطية، وحظر الأحزاب، والتضييق على حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان كانت كعب أخيل في تجربة ثورة عظيمة من أهم ثورات العالم والعصر، وسيبقى أثرها العام في الحياة دائمًا وقائمًا.
ثورة يوليو 52 كانت البداية الأساس للتأثير الكبير في المنطقة كلها، وفي القارات الثلاث، وعالميًّا كثورة كبرى كتب عنها كثيرون عربًا وأجانب، وتُمثّل مؤلفات المفكر والصحفي الكبير محمد حسنين هيكل أهم سيرة وتوثيق لتاريخ الثورة المصرية والعربية.
* نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق
تعليقات