صنعاء – “اليمني الأميركي” – محمد الصباحي:
أم (شاكر عطية) في الستينيات من العمر، وأمٌّ لعشرة أبناء (3 بنات – 7 أولاد)، ولها زوج أقعده المرض في ظل المعيشة القاسية جراء ظروف الحرب في اليمن، ما دفعها لتضاعف جهودها في العمل في بيع حزم الريحان والشذب (نباتات عطرية) ليصبح عملها خلال الحرب هو المصدر الأساسي للدخل اليومي لأسرتها، لتسطر بذلك قصة نجاح استثنائية من قصص البسطاء في هذا البلد الفقير الذي يعاني من حرب منذ ثماني سنوات.
ليست أم شاكر اليمنية الوحيدة التي تعمل في هذه المهنة الشاقة، فالعديد من النساء اليمنيات ومنهن كبار السن يشاركنها هذه المهنة، بما فيها النساء اللواتي يشاركنها هذه السوق في أكثر مناطق العاصمة صنعاء ازدحامًا باب اليمن (أحد اشهر أبواب صنعاء التاريخية)، حيث تعرض بضاعتهن من نباتات عطرية ودوائية ومنتجات محلية كاللبن والسمن والبيض والدجاج.
تقول لـصحيفة (اليمني الأميركي): “لي أكثر من عشرين سنة وأنا أشتغل في بيع حُزم الريحان والشذاب وباقات الورد.. لكن الحال تغير بسبب الحرب، فقد مرض زوجي أبو أولادي، كما أن العمل تدهور بسبب حالة الناس المتعبة والصعبة مع انقطاع الرواتب”.
أم شاكر أنموذج لنساء يمنيات سطّرن قصصًا للنجاح في سنِّ متقدم وفي ظروف صعبة أبرزها الحرب.
أم شاكر إحدى نساء الريف، نشأت في أسرة كبيرة في منطقة سعوان (من ضواحي صنعاء الغربية)، ويمتلك زوجها الكثير من الأراضي التي لم تعد تُزرع بسبب ندرة الأمطار، وغلاء البذور، وارتفاع أسعار الديزل، ليزداد الوضع تأزمًا جراء الحرب في اليمن، وإصابته بالمرض، نتيجة ذلك لم تعد أسرتها قادرة على توفير احتياجاتها الكبيرة.
تقول: “الحياة في الريف صعبة، وتحتاج للكثير من العمل، وأنا امرأة لا قدرة لي على الحرث والفلاحة في الأرض، فكان خروجي من قريتي باتجاه المدينة كي أبيع حزم الريحان والشذاب والورد، وأساعد في تربية أولادي ورعاية زوجي… وأصبح عملي هذا مهمًّا، خاصة خلال الحرب”.
رغم أن أم شاكر في أواخر العقد السادس من عمرها، وتعاني الكثير من الأمراض كالروماتيزم في مفاصلها، وآلامًا حادة في العمود الفقري جراء جلوسها الطويل خلال البيع اليومي، إلا أنها لم تتغيب عن مكانها وسط زميلاتها من البائعات اللواتي صار لهن مكانهن في سوق باب اليمن بصنعاء.
تعمل في بيع النباتات العطرية كالشذاب والريحان والورد وغيرها من المنتجات المنزلية منذ عشرين سنة.
تقول: “أحزم بضاعتي قبل أن أنام حتى موعد التكبيرات الأولى قبل صلاة الفجر، ثم أرتب حزم الريحان حسب أسعارها، وأرشها بالماء حتى تبقى رائحتها زكية وطرية، ثم أصلي الفجر، وأنطلق بسيارة أجرة تكلفني أجرتها حوالي 2000 ريال يوميًّا (أقل من أربعة دولارات تقريبًا) لأصل إلى السوق قبل طلوع الشمس، حيث أعمل طوال أيام الأسبوع، خاصة يومي الخميس والجمعة؛ لأن المناسبات كثيرة ومتنوعة كالولادة والأعراس وزيارة المقابر”.
لم تُشكل ظروف الحرب وبُعد المسافة ومشقتها لأم شاكر أي عامل إحباط أو تكاسل عن الخروج والبقاء في السوق منذ الصباح الباكر وحتى الظهيرة، حيث ترعى بناتها وزوجها المريض من دخلها اليومي غير معتمدة على أبنائها من الذكور الذين تزوجوا وكوّنوا أسرهم، ويعانون مثل غيرهم من ظروف الحرب القاسية.
تقول: “أقوم برعاية بناتي الثلاث، حيث أوفر لهن كل احتياجاتهن من ملبس ومأكل، واحتياجات دراستهن، وقيمة الدواء لزوجي المريض، كما فعلنا مع إخوانهن الذكور في السابق، ولكن يا ابني للأسف أكثرهم اليوم عاطل عن العمل، وبعضهم موظف حكومي، وانقطاع الراتب أجبرهم على أعمال أخرى، ومع ذلك تجدني أعمل ولا أتوقف عن العمل”.
خلال الحرب أصبح عملها هو المصدر الأساسي لدخل أسرتها بعد مرض زوجها.
ظروف الحرب ألهمت أم شاكر بترتيب وضع معيشتها إلى حد ما، حيث استطاعت توفير بعض من المال لشراء حُزم الريحان والشذاب والورد إلى جانب بيعها البيض والسمن البلدي، وبعض النباتات الدوائية كالحنظل والصبار.
هي نفسها من تقوم بمهمة التفاوض مع المزارعين في شراء حُزم الريحان والأشذاب وباقات الورد على مدى عقدين من الزمن، حتى تصل إلى السعر المناسب، وهو مبلغ لا يتعدى عشرة آلاف ريال، ما يعادل (18 دولارًا)، وهي مهمة شاقة وصعبة، حدّ وصفها: “كل شيء تغير، حتى الناس زاد الجشع فيهم وانعدمت الرحمة… في الماضي لم أكن أعاني من البيع والشراء.. أكثر الباعة هذه الأيام يرفعون من أسعار البيع بحجة ارتفاع تكاليف زراعة الريحان والشذاب من شتلات والماء وسعر الديزل”.
تقدم السن والتقاليد المجتمعية في اليمن يراها البعض قيودًا تعيق خروج المرأة للعمل بهدف تحسين ظروفها المعيشية، لكن الكثيرات منهن، وبخاصة في الريف لم يستسلمن أبدًا، فطوّرن منتجاتهن المحلية في بيوتهن كتربية الأبقار والأغنام والدجاج، والاستفادة من بيع اللبن والسمن والأجبان والبيض وصناعة الخبز وبيعه وزراعة الريحان والشذاب والنعناع والصعتر من خلال شراء شتلاتها.
تنهض أم شاكر في الصباح الباكر مغادرةً بلدتها الريفية في ضواحي صنعاء لتصل إلى سوق باب اليمن حيث تبيع النباتات العطرية وغيرها.
تقول: “نعيش اليوم في ظروف قاسية تشتي (تحتاج) التعاون والتكاتف، خاصة مع انقطاع الرواتب وغلاء المعيشة، والمرأة في اليمن تعين وتساعد أسرتها في أشد الظروف، وأكثر الأسر المتضررة في اليمن تتفهم هذا الوضع”.
أم شاكر لم تلتحق بفصول التعليم، ولهذا هي لا تقرأ ولا تكتب.. وعدم امتلاكها لأدوات تطوير مهنتها يُعد من أهم أسباب بقاء وضعها المادي والمعيشي متذبذبًا، على الرغم من تواجد العديد من المراكز التي تهدف إلى تمكين المرأة اليمنية من العمل في مجالات مدرة للدخل وصولاً للاكتفاء الذاتي من خلال إكسابها عددًا من المهارات والخبرات في مجالات مثل الأشغال اليدوية كالخياطة والتطريز وصناعة الاكسسوارات والتصنيع الغذائي وصناعة البخور والحناء.
تختزل قصتها ما يعيشه البسطاء من كبار السن في بلدٍ مزقته الحرب لكنها لم تقهر إنسانه.
انطلاقًا من ذلك استطاعت أم شاكر أن تُدخل إحدى بناتها في أحد هذه المراكز التنموية، التي تهتم بتنمية مهارات المرأة في اليمن، بما يسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي للأسر المحتاجة والفقيرة.
تقول: “الحمد لله، استطعت إدخال واحدة من بناتي عندها هواية صُنع الاكسسوارت والشنط اليدوية والتطريز، في مركز قريب من منزلنا يقوم بتعليم وتطوير قدراتها حتى تساعدني في الإنفاق على البيت”.
تعود أم شاكر عطية وقت الظهيرة إلى بيتها بما بقي من حُزم الريحان والأشذاب، وهي متعبة ومرهقة.. وقبل أن تودعنا قالت: “لا بد أن نتمسك بالأمل وعدم اليأس والإحباط كي نستطيع العيش والتغلب على ظروف الحرب والمعيشة القاسية”.
تعليقات