عبدالله الصعفاني*
استوقفني أحد الكتّاب العرب بعد رحلة سفر وتأمُّل في بلد الشمس المشرقة وهو يعبِّر عن دهشته من أنَّ اليابانيين لا يملُّون من الكلام عن أيام الجوع والفقر التي عاشوها، وأن استذكار الأوجاع يحدث حتى أثناء تناولهم السالمون المدخن والكافيار والبيتزا والجاتوه.. ووجدتني أشاركه الشعور بالاستغراب من أنهم، وقد بلغوا العظيم من التطور التكنولوجي المذهل، لا ينسون الكلام عن هزائمهم حتى وهم يمضغون الغالي من الطعام والمشروبات المفضلة.. لا فرق بين استرجاع خسارة مواجهة بحرية محدودة أو واسعة وبين قنبلتي هيروشيما ونجازاكي.
لكن الوجه المشرق عندهم أن كل حديث عن هزيمة لم يؤثر سلبًا في توقدهم الذهني بقدر ما يجعلونه حافزًا لعقول وماكينات وأجهزة تكنولوجية يُطلّون بها كل ساعة على إنجاز يطاول سماء التنافس في شكله العظيم.
* ومن يقرأ ما تيسّر عن اليابان سيتوقف أمام حقيقة أن الثقافة في بلدان نمور الشرق الآسيوي وبلدان العالم الأول لا تتم من طرف واحد، وإنما هو حب متبادل بين طرفي (الكل في واحد والواحد في الكل..)
عطاء وأخذ، حقوق وواجبات، حاضر وتاريخ، واستشراف للمستقبل.. وإنهم شأن بلدان كثيرة في العالم لا ينامون على أغنية، أو برعة، ولا زامل أو شيلة، وإنما يعيشون حالة تكامل تظهر بمجرد أن يقول فيها الوطن (يا…) فيكمل المواطن يا لبيك، ثم يحصل كل مواطن على حقه غير منقوص لأنه أيضًا يقدم ما عليه دون نقصان..!
* في العالم الذي يكون فيه الشعب هو وسيلة التنمية وغايتها يتحدثون مثلنا عن زعمائهم وعظمائهم، لكن في كل كتاب وكل سطر وكل كلمة سرّ يشير الى أن الجميع يتمثلون في الأغلب الأعم روح التنافس على تجسيد القدوة الطيبة، فلا تفضحهم الآية القرآنية: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفعَلونَ، كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقولوا ما لا تَفعَلونَ﴾.
ومبعث تسجيل هذا التحفيز بلغة القرآن الكريم وحتى باللغة اليابانية أننا في اليمن، وحتى في العالم العربي نحافظ على ذاكرتنا التاريخية، ونقدّس عظماءنا، ولكن بالكلام وليس بالتقليد أو المحاكاة، ولا إرادة أو حتى نية للموازنة بين الحقوق والواجبات وركوب قطار العصر إلى المستقبل.. والحصيلة هي ما نشاهده من عقارب ساعة تحث الخطى إلى الوراء بحماقة ديناصور، أما ما يحدث من الاستهانة بدماء بعضنا فحدّث ولا حرج.
وتعالوا نتأمل كيف نتعاطى مع مناسباتنا وأعيادنا من خلال وضع حالنا في غربال إحدى الدول الحديثة بحسبة التاريخ، ليس شططًا، وإنما بهدف الالتفات إلى أننا بالفعل أحفاد عظماء، لكننا خذلناهم، حرصوا على أن تكون أياديهم بيضاء، فلوثنا أيادينا وأزعجناهم.ِ
لم يملأوا جيوبهم بالحرام، فسطونا على اليابس قبل الأخضر، حتى صح القول بأن عظماء الأمس يدفعون فواتير بؤساء اليوم.
هل يمكن نسيان الثروة العربية المنهوبة من أوغاد الخارج وطحالب الداخل..؟
المشكلة أننا نتبارى في تشويه التاريخ بأيدينا وأيدي باحثين عن مجد لم يصنعوه، إلى درجة أن من زعموا أنهم كانوا داخل الدبابة إياها، صاروا بعدد يكفي لملء باص الرويشان، ما يعني أنه حتى التاريخ يحتاج إلى غربال العادلين.
* ذات يوم ثوري وقومي قال الزعيم الخالد جمال عبدالناصر بأن على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل من جنوب اليمن، فرحلت المملكة التي لم تكن الشمس تغيب عنها، لكننا ما نزال نحرص على تناول سمومها بإرادتنا المتشظية.
وثابر الزبيري والنعمان والبردوني وباذيب ومن بعدهم الربادي والشحاري وغيرهم في خط التنوير، فلم نتعلم منهم شيئًا، حتى حل ما عشناه ونعيشه من التماهي مع (فرِّق تسد).
حرص الثوار في الجنوب على تسمية المحافظات بالأرقام (المحافظة الأولى والثانية وحتى السادسة)، وتمت الوحدة بين جمهوريتين يمنيتين، فإذا بمساعي إخفاء اليمن، وإذا بالأقلمة بلغة الموفمبيك إنجاز، وإذا بمشاريع المسميات تحضر وتبرز معها نغمة التمزيق بذات حضور هواية السير فوق جثث بعضنا في وجبات صراع تكبس على أنفاس اليمنيين حتى الساعة (فضلاً تابعوا نشرات الأخبار..).
نستدعي التاريخ لنبني عليه من حماقاتنا.. نتذاكى على كل دعوة للسلام بهدف الالتفاف على أبجديات الحياة تحت علم السلام، ونستفيد.. نحتفي بثورة 26 سبتمبر ثم نسجل كل ما يناهضها.. نسجِّل ذات الحفاوة بثورة 14 أكتوبر، ثم نقطع أواصر ما يؤكد على واحدية الثورة.. خبط عشواء تحت العناوين المكررة.
ما الحل..؟
ليس من حل سوى التذكير بحاجة كل ظالم للخوف من الله، والحياء من الناس، واسترجاع كبار القوم الافتراضيين سيرة اليمن في حقب الإشراق، وتنمية الإحساس بشرف الانتماء لليمن الكبير من خلال البحث عن كل قدوة حسنة.
* وفي موضوع الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر) وواحديتها، لا يجوز أن نتناسى حقيقة أنه عندما تعرضت ثورة سبتمبر للخطر جاء الإسناد من جنوبيين حملوا بنادقهم لتكون صنعاء هي الحاضن للجميع حتى في أصعب الصراعات، فلماذا لا نتعلم ونسارع لرفض خطايا الدفع المسبق وموبقات الجهل أو التربية السياسية الخاطئة.
* أنت وأنا وهم وأطراف العبث السياسي بالحاضر والمستقبل.. كفاية استهتار بقيم الدين والوطن والأخلاق؛ فالجهل طول الزمن عيب.
إن في اليمن شعبًا عزيزًا يستحق أن يعيش، فلا تواصلوا خذلانه.. انظروا حولكم.. حافظوا على روح سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر.. استحضروا القدوة من أرواح عظماء اليمن والعالم.
* وكبداية.. أرجوكم غادروا غيبوبة الزمن، وتأملوا تفاصيل نجاحات وإخفاقات ومقارنات الطريق الممتد من طوكيو إلى عدن، صنعاء، والعودة.. لعل.. وعسى..!
*كاتب يمني
تعليقات