بلقيس محمد علوان*
لا يخطئ من يجول بنظره هنا وهناك على جغرافيا اليمن، شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا، صعوبة الوضع والعبء الكبير الذي يتحمله الإنسان اليمني سواء أكان عائلاً أو مُعالاً، بل إن الوضع انعكس على كل شخص ظاهرًا وباطنًا.
ليست الحرب وتبعاتها فقط ما يعانيه الإنسان اليمني، فانقطاع المرتبات عن مئات الآلاف من العاملين في القطاع الحكومي في العديد من المحافظات، وفقدان الآلاف لأعمالهم في القطاع الخاص، مع شحة فرص العمل المتاحة، كل ذلك ألقى بظلاله الكئيبة على كل تفاصيل الحياة صعوبة وتراجعًا.
تستمر الحياة في ظل الحرب، لكنها شديدة الصعوبة في ظل انقطاع المرتبات، ويبدو أن الزمن الذي كانت فيه الدولة للمواطن أمًّا وأبًا قد مضى إلى غير رجعة في العالم كله، إذ أصبحت علاقة المواطن بالدولة علاقة حقوق وواجبات، لكنها في اليمن أصبحت علاقة تنصل تام من الدولة تجاه المواطن، وبدأ زمن آخر، الخيار المتاح فيه أن يكون كل فرد هو المسؤول عن نفسه وعن كل ما يخصه، على الأقل حتى المستقبل القريب، حيث تنتهي الحرب وتستعيد الدولة مكانتها، وتقوم بأدوارها تجاه مواطنيها، ولأننا لا نعلم متى يمكن أن يحدث ذلك، فليس أمام اليمني إلا البحث عن خلاصه الشخصي كفرد، والخلاصات الفردية في مناطق النزاع هي خلاص جماعي في حقيقة الأمر، لأن كل من يستطيع أن يوجد حلاً شخصيًّا هو على أقل تقدير يعفي معيليه من مسؤولية إعالته، كما يستطيع في حالات أخرى تقديم الدعم والسند لعائلته.
استطاع العديد من الشباب أن يشقوا طريقهم في مجالات عديدة سواء داخل اليمن أو خارجه، في العالم الحقيقي أو الافتراضي، وتعددت مجالات إنتاجهم، إخفاقات ونجاحات، ولكن المحاولات مستمرة، وفي الوقت الذي تمكن كثيرون من فتح مشاريعهم الخاصة برأس مال متواضع، وبتمويل شخصي أو خارجي من منظمة أو ما شابه، نجد الأكثر يقفون دون أي مبادرة أو محاولة في حالة تسليم واستسلام.
في الحقيقة لا يوجد وقت هو أدعى للتغيير الشخصي من الوقت الراهن، كل الضغوط والإحباطات المحيطة تدعونا لإعادة النظر في كثير من تفاصيل حياتنا: موقفنا من التعليم، نظرتنا للمهن وممتهنيها، وصورتها لدينا، فالواقع يقول: إن أصحاب المهن أكثر من صمدوا في ظل الأوضاع الراهنة، والأقل تضررًا من شريحة الموظفين، وإن كان الكل متضررًا بدرجات متفاوتة، فأين يكمن الفارق؟
الفارق في امتلاك مصدر دخل مستقل.. صحيح أن موجة الغلاء التي تعصف بالجميع، والاختلاف السعري للريال اليمني في مقابل العملات الأخرى من منطقة لأخرى في اليمن، تؤثر بشكل حاد في أصحاب الأعمال والمشاريع الصغيرة، لكن منطق السوق والعرض والطلب يجعل من الاستمرار ممكنًا وإن كان في حده الأدنى، وإلى جانب أصحاب المهن والحرف التي عادت لتنتعش وتجد لها سوقًا ومستهلكين بفعل التغيرات الطارئة التي نتجت عن صعوبة الوصول لموارد الطاقة بسبب الاحتكار وارتفاع السعر، فقد لمسنا عودة كثيرين لمهنهم وحِرَف أسرهم.
ومؤخرًا استطاع كثير من الأفراد المتميزين والموهوبين في مجالات متعددة: البحث العلمي، الابتكار، التصوير، صناعة المحتوى، الرياضة، الفنون التشكيلية، الموسيقى، الغناء، استطاعوا تحقيق نجاحات غير مسبوقة، والعديد منهم حصد جوائز وتقييمات مرموقة.
غالباً لم تكن الدولة، ولا أي جهة رسمية تساندهم أو تقف وراء إنجازاتهم، بل كان شغفهم ومثابرتهم الحافز للمحاولة والإنجاز، لم يكن الطريق أمامهم ممهدًا سهلًا، ولن يكون في ظل الواقع المعاش، لكن الاستمرار والسعي للتميز كان خيارهم.
يظل التعليم، والتدريب، وامتلاك الأدوات، والاشتغال على الذات وتأهيلها، والفهم العميق لواقع ومتطلبات العصر الوسيلة للوصول، ويظل البحث عن مخرج خيارنا للبقاء، وبالتأكيد ليست الهجرة هي الخيار الأوحد، فضلًا عن كونها لم تعُد بالأمر السهل، فهي ليست ممكنة للجميع، لكن يظل السؤال من أين نبدأ؟
لعل كل واحد منا أدرى من غيره بإمكانياته وشغفه، وما يحتاج من تأهيل أو تدريب وبناء قدرات، وما الذي يحتاجه الواقع في هذا المجال أو ذاك، أما الشكوى والتذمر فلن توصلنا إلى شيء أكثر من الإحباط واليأس، وما هو أسوأ.
حولنا وأمامنا أمثلة كثيرة لنساء ورجال، لشباب وفتيات، لم يستسلموا لليأس والإحباط، بل أشعلوا في طريقهم شموعًا قادتهم لنوع من الاستقرار المالي وتلبية متطلبات الحياة، وفوق ذلك زرعت في نفوسهم اقتناعًا بإمكانية صناعة واقع ممكن بالمحاولة والمثابرة وتطوير الذات، وآخرين استطاعوا الحصول على فرص تدريبية ومنح دراسية داخلية أو خارجية بالبحث والاستقصاء، ومن الجيد أن كثيرًا من التدريب والتأهيل وبناء القدرات متاح على فضاء الإنترنت، وهو الفضاء الذي يقودك للمزيد والمزيد مما تبحث، أيًّا كان.
فهل نظل حبيسي هذا الواقع الذي لم نختره، ولسنا سببًا فيه، ونظل نراوح مكاننا نتذمر ونشكو ونلعن، أو نبدأ البحث عن فضاءات ممكنة؟
*أكاديمية وكاتبة يمنية.
تعليقات