يقول المثل الشعبي اليمني “صاحب المهرتين كذاب”، لكن الحرب في اليمن بقدر ما أسقطت بعض مقاييس العلاقة الاعتيادية مع الحياة، ربما أسقطت سلامة بعض الأمثال الشعبية المتداولة عن هذه العلاقة.. فالمَثل المذكور، آنفًا، ربما فَقَد صحته، تمامًا، في اليمن، حيث تضطرّك الحرب لِأنْ تعمل في أكثر من مجال، وتضطرّك الحرب – أيضًا – لتنجح فيهم رغم أنفك.. !
صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري
وهو ما تؤكده حكاية نقرؤها تحت سقف دكان عمار، الكائن في أحد أحياء شمال صنعاء؛ إنه دكان يملكه شاب، ويمارس فيه أكثر من مِهنة بنجاح.. يصنع البخور، ويُنتج العطور، ويبيع الأحذية والحقائب والهدايا والمستلزمات المدرسية، ويتعامل مع اكسسوارات الهواتف الخلوية، ويُدير قِسمًا لصيانة الهواتف والحواسيب المحمولة، كل تلك الأقسام موزّعة في مساحة لا تتجاوز عشرين مترًا مربعًا..اللهم لا حسد، لكن كيف؟، لا تسأل عن هذا؛ إنها الحرب.. والحياة داخل بلد الحرب ليست كالحياة خارجه.
تتوزع تلك المِهن وأقسام المبيعات في زوايا وجنبات دكان صغير بشكل منظّم وذكي؛ وهو ذكاء يمتد إلى تعامل صاحبه مع زبائنه.. لكل زاوية وقسم في هذا الدكان حكاية يرويها (عمار- 1988م)، فنسمع معها صوت الحرب التي تعاني منها بلاده؛ هذه الحرب التي تُمثّل صنعاء (المدينة والناس) عنوانًا قاسيًا من عناوين معاناتها..!
شابٌ ثلاثيني العُمر أمضى منه 12 سنة عاملاً لدى الآخرين يؤهِّل فيها نفسه للتعامل مع دكانه الخاص.. وفي غمره الاستعداد والانتظار لولادة هذا الحلم الصغير لهذا الشاب البسيط… استهدفت مقاتلات التحالف كل أشكال الحياة في صنعاء، في حرب ما زالت مستعرة ضد كل شيء في هذا البلد الأفقر في الشرق الأوسط.
(عمار) مثل كل اليمنيين، ما زال يتجرع غُصص هذه الحرب القذرة.. ولعل أقسى حكاياته معها كانت ما بين الغارات التي استهدفت جبل نقم/ شرق المدينة، وجبل فج عطان/ غرب.. كانت تلك الحكاية في العام الأول من الحرب، خلال استهداف التحالف بقصف جوي وبحري لمعسكر الصيانة / شمال.. وبينما كان يمر بمعية أخيه بجوار المعسكر ظُهرًا سمع في الأجواء صوت تحليق مقاتلة للتحالف، وفي الأثناء أطلقت غارتها على المعسكر بالقرب من السور…”، كنتُ مع أخي وقتئذ، ولم نكن نتوقع أن يتم القصف ظُهرًا، حيث اعتدنا القصف ليلاً في الغالب.. من شدة حالة الخوف التي انتابتني شعرتُ، حينها، وكأني فقدت القدرة على الحركة، حتى أنني لم أستطع الهروب، ولولا مساعدة أخي لي لما تجاوزنا المكان في ذلك اليوم المشؤوم، الذي استمريت بعده طريح الفراش عدة أيام”.
يتذكر الكثير من حكايات الحرب.. وقد صار، اليوم، مستقلاً بمشروعه الصغير، الذي افتتحه نهاية 2015م.. بل لقد كانت الحرب هي السبب في تعجيل انتقاله لدكانه كما يروي، موضحًا أنّ صاحب الدكان الذي كان يعمل لديه قرر، بسبب ظروف الحرب، تخفيض راتبه.. “لم أستطع استيعاب مشكلة تخفيض الراتب؛ فلديّ أسرة والتزامات معيشية، ولم يكن أمامي خيار سوى التفكير بافتتاح دكان خاص بي قبل أن أنفق ما وفرته من مال، في ظل واقع الحياة الصعب الذي فرضته الحرب؛ فاستطعت بمساعدة والدي أن أفتح هذا الدكان قبل عامين” – يقول عمار.
قبل افتتاح دكانه كان قد اكتسب مهارة صناعة البخور وتكوين العطور حتى أصبح ماهرًا فيها.. ولهذا عندما قرر فتح دكانه كانت فكرته أن ينشط في البخور والعطور والهدايا والأحذية فقط، مستعينًا في ذلك بمعمل خاص به لتكوين البخور والعطور.. إلا أنه كان خائفًا من فشل مشروعه في ظل تراجع القدرة الشرائية للناس بسبب ظروف الحرب علاوةً على أن تجارة البخور والعطور والهدايا والأحذية تنشط في موسم معيّن في السنة، بينما يريد أن يعيش على دخل يومي يفي بالتزاماته.. “لذلك قررتُ توسيع نشاطي واستغلال مساحة الدكان بشكل جيّد، بما يخدم تنويع النشاط لضمان دخل طوال السنة”.. يوضح عمار أن تنويع نشاطه كان هو الحل الوحيد الذي رآه لتجاوز مخاوف الدخل الحر؛ فأضاف قِسمًا لاكسسوارات الهواتف المحمولة، ومنه اهتدى للحاجة المهمة لقسم صيانة الهواتف في ظل طلب الناس لها؛ فاستحدث هذا القسم، واستعان بمهندس متخصص لتشغيل قسم الصيانة، وخلال تطور عمل هذا القسم؛ اهتدى عمار لِأن يدرس بنفسه صيانه الهواتف؛ فالتحق، تحت إشراف المهندس الذي يعمل لديه، بمعهد تقني أمضى فيه أربعة أشهر، تعلّم فيها الصيانة التي يمارسها – الآن – مع المهندس الذي يعمل معه في صيانة الهواتف والحواسيب داخل هذا الدكان الصغير.. وفي مرحلة لاحقة أضاف قسم المكتبيات والمستلزمات المدرسية.. “لم يكن أمامي خيار سوى تنويع النشاط.. وكنتُ حريصًا في كل أعمالي التزام الدقة، بما في ذلك الصيانة ومعمل إنتاج البخور والعطور، وهي الدقة التي التزمتها حتى في توزيع وتنظيم وعرض محتويات الدكان”.. يوضح عمار أنه صار بعد عامين على فتح دكانه مستقرًا مطمئنًا بعد تجاوزه المخاوف، التي ظلت ترافقه في بداياته، بل إنه يقول – بلغته البسيطة: إنه لم يخطط لكل هذا التنوع، ولم يفكر – مسبقًا – أنْ يكون دكانه بهذا الشكل، وهذا التنوع، بل لم يُفكّر – مطلقًا – أن يتعلم صيانة الهواتف.. “كانت مغامرة، وأشعر أنني نجحتُ في هذه المغامرة”.
يحبّ عمار عمله، ويزداد حبًّا له، وهو يجد رأس ماله ينمو، مقارنة بما كان عليه.. وهو الحب الذي نجده في تعامله المنظم والدقيق مع التفاصيل؛ ولهذا تجده استحدث ماركة باسمه، يضعها على علب البخور والعطور التي ينتجها معمله الخاص.
“كنت أعتقد أنني سأفشل، لكنني غامرت، ولم أتخلّ عن الدقة في عملي.. لقد وضعتني الحرب في اختبار، وأشعر أنني، حتى الآن، نجحت”.. يضيف عمار – بثقة: “أخطط، في هذا العام لِأنْ أوسع نشاطي في قسمي المكتبيات والبخور والعطور، بحيث أبدأ في البيع بالجملة للموزعين”.
إنْ كان ثمة نجاح يمكن الحديث عنه في حكاية هذا الشاب ودكانه الصغير؛ فهو إصراره على تحدي الحرب، وتجاوز ظروفها، وعدم الاستسلام لمخاوف وظروف الصراع المستعر في البلد.. وبالفعل؛ فالتجارة تعتمد على (روح المغامرة والتحدي)، ابتداءً من المشاريع الصغيرة، كهذا المشروع الذي وقفنا بهذه السطور على حكايته في اليمن خلال زمن حرب لا أفق حالية لتجاوزها.
تعليقات