وضاح عبدالباري طاهر*
لم تزل مشكلة الجبر والاختيار معضلة في الفكر الإنساني، حارت فيها العقول، واضطربت فيها الأقوال.
وإذا ما رجعنا إلى أول الخليقة نجد أن آدم يقول بالاختيار: (ربنا ظلمنا أنفسنا)، أما إبليس فيحمل الرب سبحانه تبعة إغوائه: (ربِّ بما أغويتني).
ومع ذلك، يقول ابن خطيب الري في تفسيره (مفاتيح الغيب): “كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب جدًّا، فتارة يميل إلى القدر المحض، وهو قوله: (لأغوينّهم أجمعين)، وأخرى إلى الجبر المحض، وهو قوله: (ربّ بما أغويتني)، وتارة يظهر التردد فيه، حيث قال: (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا)”.
وكذلك الفلاسفة احتاروا فيها قديمًا وحديثًا، فبعضهم كان يرى أن الإرادة حرة في الاختيار كالأبيقوريين، وبعضهم كانوا يرون أنهم مجبورون في أفعالهم كالرواقيين.
وفي الموسوعة الفلسفية يرد تعريف القدر بأنه:” قوة بموجبها يمكن أن تتحدد بعض الأحداث تحديدًا مسبقًا، مهما وقع، ومهما كانت الكائنات الذكية والإرادة قادرة على الفعل لكي تتجنبها.. “يتبعني قدري في كل مكان”.
ويذهب أبو هلال العسكري في كتابه (الأوائل) أن معاوية هو أول من قال بالجبر، ولا شك أن تبنى هذا القول لتثبيت سلطته وأنه بإرادة من الله.
كما أن الذهبي يذكر في (سير أعلام النبلاء) أن معبد الجهني، المقتول سنة (80ه)، هو أول من قال بالقدر – يقصد حرية الاختيار – في البصرة.
أما أبو الحسن الأشعري الذي كان على مذهب المعتزلة، ثم نصر مذهب أهل الحديث، فيذكر المؤرخون أنه ناظر شيخه الجبائي في قولهم: يجب على الله أن يفعل الأصلح، فقال الاشعري: بل يفعل ما يشاء.
ثم إن الأشعري طرح على شيخه هذا السؤال: ما تقول في ثلاثة صغار: مات أحدهم، وكبر اثنان، فآمن أحدهم، وكفر الآخر، فما العلة في اخترام الطفل؟ قال: لأنه تعالى علم أنه لو بلغ لكفر، فكان اخترامه أصلح له.
قال الأشعري: فقد أحيا أحدهما فكفر.
قال: إنما أحياه ليعرضه أعلى المراتب، قال الأشعري: فلِمَ لا أحيا الطفل، ليعرضه لأعلى المراتب؟ قال الجبائي: وسوست، قال: لا والله، ولكن وقف حمار الشيخ”.
وهذه إحدى الروايات التي تحكي انتقال الأشعري من الاعتزال إلى السنة، وعندي رأي آخر في سبب انتقاله.
ويذكر الدكتور عبدالرحمن بدوي عن أول كتاب ذكر هذا التحول هو كتاب الفهرست لابن النديم، وفيه: “وكان – أي الأشعري – أولاً معتزليًّا، ثم تاب من القول بالعدل، وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة في يوم الجمعة، رقي كرسيًّا ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي: أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع”.
ومسألة توبة الأشعري من القول بخلق القرآن أو رؤية الله بالأبصار قد تكون مفهومة، لكن غير المفهوم هو تنصله من أفعال الشر التي يفعلها، ومن عساه يفعلها؟ لا شك أنه يقصد – أستغفر الله – الله سبحانه وتعالى.
ومما يذكر أنه اجتمع أبو عمرو بن العلاء، وعمرو بن عبيد، فقال عمرو لأبي عمرو: هل تعرف في كلام العرب أن أحدًا فرط فيما لا يقدر عليه؟! قال أبو عمرو: لا.. قال: أخبرني عن قوله تعالى: (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)، أكان حسرته على ما قدر عليه أو على ما لم يقدر عليه؟ فقال أبو عمرو لأصحابه: قد أبان لكم أبو عمرو القدر بحرفين.
وسئل جعفر الصادق، رضي الله عنه، عن القدر، فقال: ما استطعت أن تلوم عليه العبد فهو فعله، وما لم تستطع أن تلومه فهو فعل الله، يقول الله تعالى: لم كفرت؟ لمَ عصيت؟ ولا يقول: لِم مرضت؟.
القدر في الأدب:
ويذكر أبو الفرج في (الأغاني) فيقول: “كان الأعشى قدريًّا [يعني يذهب إلى حرية الاختيار، فأهل السنة إذا نعتوا شخصًا ما بأنه قدري، فيعنون بذلك أنه يقول بحرية الإرادة]، وكان لبيد مثبتًا، قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ** ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالـ ** عدل وولى الملامة الرجلا
وحين سئل من أين أخذ الأعشى مذهبه، أجاب: “من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك”.
كما ذكر أهل الأدب عن دعبل الخزاعي، يقول: “بينما أنا جالس بباب الكرخ، إذْ مرت جارية لم أرَ أحسن منها وجهًا ولا قدًّا، تتثنَّى في مشيها، وتنظر في أَعطافها، فقلت متعرِّضًا لها:
دُمُوعُ عيني بها انْبِساطُ ** ونومُ عَيني بها انْقِباضُ
فأَجابتني مسرعة فقالت:
وذَا قَليلٌ لمنْ دهتهُ ** بلحْظِها الأعينُ المِراضُ
فأَدهشتني وأَعجبتني، فقلت:
فهلْ لموْلاتي عَطْفُ قلبٍ ** وللَّذي في الحَشَى انْقِراضُ
فأَجابتني غير متوقفة، وقالت:
إنْ كنتَ تهوى الوِدادَ منَّا ** فالودُّ في دِيننا قِراضُ
قال: فما دخل في أذني كلام قطّ أَحلى من كلامها، ولا رأَيت أَنضر وجهًا منها، فعدلت بها عن ذلك الوجه، وقلت:
أَترَى الزَّمانَ يسرّنا بتلاقي … ويضمُّ مشتاقًا إلى مشتاقِ؟!
فأجابتني بسرعة، فقالت:
ما للزَّمانِ وللتَّحكّمِ بيننا … أَنتَ الزَّمانُ فسُرَّنا بتلاقِ
وبيت دعبل الأخير، ورد تلك الفتاة عليه هو محل الشاهد، فدعبل يظهر تذبذبًا وشكًّا في قدرته على مواصلة من يحب، ويحيل على الزمان عساه أن يجود عليه بوصل من يهواها، في الوقت الذي تظهر الفتاة ثقة وإيمانًا بحرية الاختيار، فليس الزمان عندها سوى مفعول فيه، والفاعل الحقيقي هو الإنسان.
ما للزمان وللتحكم بيننا ** أنت الزمان…
وهذا أحد المواقف التي تفوقت فيها المرأة على الرجل، ومثلها قصة أبو المعلى مولى بني قشير والخليل بن أحمد الفراهيدي مع أم عثمان بنت المعارك، وكذلك السيدة أروى الصليحية مع سعيد الأحول الذي ردت له ما عمله مع عمها علي بن محمد الصليحي وزوجه أسماء، صاعًا بصاع.
وممن أحال على الزمان والأقدار أيضًا ابن زيدون في نونيته المشهورة: (أضحى التنائي..)
وفيها يقول:
إن الزمان الذي قد كان يسعدنا * * أنسًا بقربهمُ قد عاد يبكينا
وحمينية الحسين بن موسى الغراز (يا هلال الفلك)، وفيها يقول:
ياشقيق القمر* لو ساعدت فيك الاقدار * باللقا والتداني
أشهدك في السمر* واسمعك صوت الاوتار * باختلاف المعاني
واجتلي في السحر * خمر العنب بين الازهار * في رياض التداني
ليتنا اقبلك * واشم عرفك والاوجان* بعد رشف اللآلي
وأين قول الغراز، وأمانيه: (يا شقيق القمر * لو ساعدت فيك الاقدار)، من قول المتنبي:
كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةٍ ** أدهى وقد رقدوا من زورة الذيبِ
أزورهم وسواد الليل يشفع لي* وأنثني وبياض الصبح يغري بي
هذا وفي الأخير لا ننسى أن ننبه أن رأي الإمامية في القدر هو الأمر بين أمرين، ويبدو أنهم أحبوا أن يتوسطوا بين الاختيار والاضطرار، وأنت أيضًا أيها القارئ لك الخيار أن تختار بين كل هذه المذاهب ما تشاء بشرط البحث والاطلاع والقناعة.
* كاتب يمني.
تعليقات