وضاح عبدالباري طاهر*
القاضي عبد الرحمن الآنسي عالم كبير، وشاعر غَزلٌ رقيق. ذكره القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني في كتابه (البدر الطالع)، الجزء الأول، ص326، وذكر أن مولده بصنعاء سنة 1168ه، وأنه أخذ علم العربية عن العلامة إسماعيل بن إسماعيل بن ناصر الدين، وعبدالله بن محمد الأمير، وأخذ الفقه على العلامة أحمد بن محمد الحرازي – شيخ الشوكاني، وفي الحديث عن العلامة المحدث لطف الباري بن أحمد الورد.
ووصفه الشوكاني بأنه أحد أعيان العصر المُجيدين في العلوم الأدبية، وذكر أن إمام عصره، وهو المنصور علي ابن المهدي عباس، ولاه القضاء في بعض البلاد اليمنية، ثم نقله إلى بلاد حجة، فباشره بعفة وصيانة وحرمة ومهابة وصرامة، بحيث صار أمره فيها أنفذ من أمر العمال.
ويقول: إنه، مع ذلك، عاكف على مطالعة العلوم، وأن له من النثر البليغ ما يفوق الوصف. ولما اجتمع به رأى من حُسْن محاضرته، وطيب منادمته، وقوة ذهنه، وسرعة فهمه ما يقصر عنه الوصف، حسب قوله.
وقد كتب الآنسي للشوكاني رسالة مشتملة على عشرة أسئلة، أجاب عليها شيخ الإسلام الشوكاني برسالة سماها (طيب النشر في جواب المسائل العشر).
ويتحدث عنه الدكتور محمد عبده غانم في كتابه (شعر الغناء الصنعاني)، ص167، فيقول:” أما المكانة الرفيعة التي يحتلها الآنسي الأب في الشعر الحميني بصورة عامة، فلا تحتاج إلى توكيد، وعلى الأخص إسهامه الممتاز بحمينياته في شعر الغناء الصنعاني.
لكنه يستدرك، فيقول: “وربما كانت شهرة الآنسي الأب أعظم من قيمته الحقيقية كشاعر حميني، فهو لا شك غزير الإنتاج، ولكن أسلوبه يفتقر إلى الخفة والرشاقة التي يمتاز بها شعر ابن شرف الدين، وإلى العفوية التي يمتاز بها شعر العنسي، بل إن أسلوب الآنسي يترنح أحيانًا تحت ثقل الكلمات الفصيحة، والتعابير الفخمة، وهو إلى جانب ذلك أكثر تقليدًا للأسلوب العربي القديم في تناول موضوع الحب الجنسي…”
“ومع ذلك فإن الكثير من قصائده لا تدع مجالاً للشك في ميزتها الكبيرة، وهي على كثرتها تغنّى بألحان تُعدّ من أروع ألحان الغناء الصنعاني”.
“وحتى الشعراء الذين جاءوا بعد عبدالرحمن بن يحيى الآنسي لم يسلموا من طغيان شهرته. ومع أنه يحق لنا أن نقول إن ليس بينهم من يساويه في المكانة الأدبية، إلا أن ما أسهموا به من القصائد في شعر الغناء الصنعاني لا يمكن أن يغني عنه شعر الآنسي، ولا شعر غيره من عمالقة الشعر الحميني”. (ص168).
ونجد الدكتور جعفر الظفاري في كتابه (الشعر الحميني في اليمن)، ص103، حين يذكر الشعراء البارعين في الشعر الحميني ممن أخلصوا في وصف معاناة تجربتهم الشعورية، وكانت لهم القدرة على بث حرارتها في حنايا الحروف والكلمات بفضل امتلاكهم ناصية اللغة، وإحاطتهم بأغوار وأسرار هذا الشعر وإيقاعاته النغمية، وبما وهبوا من جودة العقل، ورقة النفس، وجيشان العاطفة، مع القدرة الفذة على تصوير هذه المشاعر بالنغم الموحي، والصور الدالة، نجده يذكر القاضي عبدالرحمن الآنسي إلى جانب المزاح، والعلوي، والسودي، ومحمد عبدالله شرف الدين، وحيدر آغا، وعبدالله بن علوي الحداد، والحسين بن علي، والجحافي.
أما الدكتور عبدالعزيز المقالح في كتابه (شعر العامية في اليمن)، ص366، فيصفه بأنه: “شاعر رقيق الطبع، لامع الحرف، وثالث الثلاثة الكبار من شعراء العامية في اليمن، وأوسعهم شهرة في عصره وفي عصرنا، ولشهرته الواسعة تنسب إليه أشعار زميله الكبيرين، وأشعار آخرين ممن سبقوه، وممن جاءوا بعده”.
ويذهب الدكتور المقالح إلى أن شهرة الآنسي تعود في هذا العصر إلى انتشار بعض أغانيه المتداولة شعبيًّا، والتي حققت نجاحًا منقطع النظير في مختلف الأوساط، ثم العناية التي خُصّ بها ديوان شعره العامي، وما تهيأ له من شرح مستفيض قام به علمان من أعلام الفقه والأدب في اليمن، وهما القاضي عبدالله بن عبدالإله الأغبري، والقاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني.
تولى القاضي عبدالرحمن الآنسي كثيرًا من الأعمال، فمارس منصب القضاء في أكثر من منطقة، إلا أن سفره إلى تهامة بمدينة حيس، وتولّيه القضاء بها كان امتحانًا صعبًا وقاسيًا لرجل اعتاد على أجواء صنعاء الرائعة، ثم يجد نفسه في مكان تصهر الشمس فيه كل ما يقع تحت أشعتها الحارة، وإذا كان القاضي العنسي من قبله يعقد مقارنة بين صنعاء والعدين، فيكون الرجحان لصنعاء في هذه المقارنة، والعدين ما العدين بطبيعتها الخضراء، وجوها الساحر، فكيف تكون إذن المقارنة بين صنعاء وتهامة؟!
ويبدو أن مسألة الحنين للمنزل الأول، وليس مجرد اختلاف الطقس، هي الحاكمة في الطبيعة الإنسانية بشكل عام؛ لأننا نرى أيضًا الآنسي يذم ويشكو إقامته في الدن من بلاد وصاب، في قصيدته التي مطلعها:
لقد عز عز التقى من قنع/ بما قد قسم له كثر أو قلْ
فما لك وللدن يا من طمع/ فلا صان نفسه ولا حصل
لنعرج على القاضي العنسي متشكيًا من أجواء تهامة الحارة، حيث يقول:
فوج امجبل ليتني احيدك/ واشكي عليك حر ذا امزيبْ
والله لو تلمسه بايدك/ ما زاد عذب في امجبل مشرب
وكذلك القاضي الآنسي نراه يتسخط من حرارة المكان الذي وجد نفسه فيه؛ فيسأل الإعفاء من منصب القضاء من حيس، ويقول:
وتركت الجنان والأنهار / سفح صنعا مشارق الأنوار
وتبدلت بالعسل مُرَّارْ
وبدت لي من الشغل أفنان/ تستخف الحليم
وتنسي الديار والأوطان/ وتشيب العُظَيمْ
ثم غوبه تجي بها أحيان/ تبطح المستقيم
وشراب الضحى حميم آن/ من شراب الحميم
بيت
وإذا ما لفح بها الكاوي/ ذق عذاب الحريق
والظما في حشاشتك ثاوي/ ليس في فيك ريق
حيس لا يأتيها سوى غاوي/ ضل وجه الطريق
إنما حيس مهبط الشيطان/ من جنان النعيم
لكن القاضي الآنسي ناقض نفسه، فعاد وامتدح السحاري، بحيس، ووصف نخيله في قصيدته التي مستهلها:
الدهر أدوال / والوقت نزال رحال
فيقول:
ما نخل نعمان/ وما الرويس أيش لبنان/ ما الجاح ما وادي زبيد
طيب الهوى الشان/ ليس المراد طيب الالوان/ يأتيك بالتمر البريد
من أجل ذا كان/ محيا سنون آل غسان/ وهل على هذا مزيد
ويمكننا أن نجمع بين الأمرين، وهو أن تسخّطه وشكواه كانا في البداية، ثم لمّا اعتاد على جوّها، وصار له بها أصدقاء كالعلامة حسن بن يحيى طاهر طاب له المقام، وفيها يقول:
سلوت عن أهلي وداري/ وما إلى هذا سبيل
عجبت من حيس في قراري/ قد كان عندي مستحيل
لولا حسن يحيى بن طاهر/ فيها لما زال العجب
نجم العلا نجل الأكابر/ عالي النسب وافي الحسب
أنس النديم روح المحاضر/ بحر العلوم روض الأدب
سهل العريكة غير عاري/ عن ملبس الفضل الجليل
ولما صار إلى موطنه الأول، عاد وتشوق إلى تهامة، فقال قصيدته، وهي من عيون الشعر الحميني، وغناها علي بن علي الآنسي، وعزفها أحمد فتحي على العود من جملة حمينيات أداها:
يا شاري البرق من تهامه/ رويدك الخفق واللموع
حليت قتل الشجي ظلامه/ في ذمتك قلبه المشوق
مسكين مستصحب السلامه/ قام يسألك علم لا يعوق
فكان جوابك عليه حمامه/ ما هكذا تفعل البروق
توشيح
أبراك ربي وسامحك / فيما فعلته بلامحك
إن جبت فيما يفاتحك
تقفيل
هل في تهامه بكت غمامه/ ضحكت في دمعها الدفوق
فاخضر من رملها ثمامه/ واصفر من نخلها العذوق
بيت
ومن سمر بالكثيب الاعفر / بعدي على ساري القمر
وأبيض الفل ذاك الازهر / شبيه ثغر الرشا الأغر
من شك زهره ومن تمشقر / ورصفه ساعة السمر
وهل خطب قمري الحمامه / في منبر النخلة السحوق
توشيح
لله ما أشجاه من خطيب/ يشجي الخلي يبكي الكئيب
يذكي جوى فرقة الحبيب
تقفيل
فإيهِ هل قام في مقامه / لا زيله عنه ما يعوق
والليل قد رققت ظلامه/ نُسيمة الفجر بالخفوق
بيت
فشوش العود وهو مائل / للطير حين أسحر النسيم
فاستيقظت نوم البلابل / ورددت نغمه الرخيم
وأقبلت زمرة العنادل/ بنغمة الحازق السقيم
فقومت للهوى قيامه/ وللطرب والسرور سوق
توشيح
فهات عن أهلها الغرر / الطيبي الخُبر والخَبر
وسادة البدو والحضر
تقفيل
مفاتيح الخير والكرامه / والفضل والرعي للحقوق
من ليس في وصفهم ذمامه / وليس في فعلهم عقوق
…
بيت
وبعد يا بارق التهايم / إن لاح بأرض الحصيب سناك
فقل دوين النقا المشايم / وراعي الدير أنا فداك
صبك بأرض الجبال هايم / عساك تشاه مثلما يشاك
واجامع الحسن والزخامه / لا عيش في فرقتك يروق
وله أيضًا:
ليت شعري من أكثر ترقاب الفرص / فيك ياطير واحتاش
وتردد عليك كل يوم حتى اقتنص/ شاردك والحذر من قدر لاش
وربط ساق رجلك وقصر بالمقص/ من جناحك طويلات الارياش
وتجاوز على ظلم حبسك في القفص / بعد ما كنت مطلق في الاعشاش
توشيح
ما فساد البلاد غير من الناس/ من كفي شرهم ما لقي باس
فهم الرِجل في الشر والراس
تقفيل
هم رموا صفو عيشه بأكدار النغص/ هم أعلوا فؤاده بالاعطاش
هم وهم جرعوه بالفراق مر الغصص/ عجبي كيف إلى اليوم زاد عاش
بيت
كم يقلب من الفِكَر وجهه في السما/ إن سمع في الهوا خفق الاجناح
ويطرب غناه إن رأى خضره وما / ويصفق جناحه ويلتاح
ويظنوه مرتاح وفي الجهل العما/ كيف محبوس مشتاق يرتاح؟!
ذاك يوم كان على غصن إن غنى رقص/ تحت رجله وإن نوشه ناشْ
وله، وغناها السنيدار:
ياحي يا قيوم/ يا عالم بما تخفي الصدور
يا رازق المحروم/ يا من بحر جوده لا يغور
يا ناصر المظلوم/ ياذا الانتقام ممن يجور
يا منفذ المحتوم/ في الساخط وفي الراضي الصبور
بيت
أسألك يا رحمن / بالنور الذي لا ينطفي
سيد ولد عدنان/ حبيبك من توسل به كفي
أن تذهب الأحزان/ والأمحان باللطف الخفي
وتكشف المهموم/ وتكفينا مهمات الأمور
بيت (من هنا غناها المرشدي)
عن ساكني صنعاء/ حديثك هات وافوج النسيم
وخفف المسعى/ وقف كي يفهم القلب الكليم
هل عهدنا يرعى/ وما يرعى العهود إلا الكريم
وسرّنا مكتوم/ لديهم أم معرض للظهور
وله على نفس وزن قصيدة محمد بن علي شرف الدين التي تُنشد في مجالس العزاء، والتي يقول فيها:
الصبر حصن الفتى والسور/ إذا ألمّت بك الأحزان
فاصبر لحكم القضا المزبور/ واقنع بقسمة عظيم الشأن
وقصيدة الآنسي:
الحذر لا يدفع المقدور/ هيهات ما قدر الله كان
وعبده المنهي المأمور/ الخير والشر له قد بان
وفيها يقول:
من عاش مداري يموت مستور/ غير الهوى إن تملك بان
فلا تغطيه شهايد زور / ولا تعذار ولا أيمان
وقوله: (من عاش مداري يموت مستور)، أصبح من الأمثال المتداولة السائرة عند أهل صنعاء، وفي رأيي أن أبيات محمد بن علي شرف الدين أكثر عمقًا، وإن اختلف التناول، حين قال:
وكل ماضي شهايد زور/ وغايته إنك ابن الآن
فلو كشف لك غطا المستور/ ما اخترت غير الذي قد كان
خاصة وأن علماء النفس يحثون على عدم الالتفات إلى تجارب الماضي القاسية، وتصويب النظر للأمام حتى يمضي الإنسان قدمًا، فيحقق ما ينشده، وألا يجعل الماضي حاكمًا جائرًا عليه، فحكمه بمثابة شاهد الزور الذي لا تصح شهادته، كما أن الصوفية يقولون: إن الصوفي ابن وقته.
ولقد وددت لو أن القاضي الآنسي أبدل لفظة: (نُوحي)، بـ (نُودي) حين قال:
يا بانة الوادي الممطور/ يا خوط يا أحلا غصون البان
نوحي على نغمة الشحرور/ فالنوح من عادة الأغصان
والا على نفثة المصدور/ فنفثته تبعث الأشجان
لأن النَّوح صوت يليق بذوات الأصوات، وليس من عادة الأغصان النُّواح كما ذهب، وإنما الحركة والتثني والتمايل؛ ولذلك شبهوا قدود الغانيات بها، أما النود فحركة تليق بالأغصان، فالنود هو التمايل من النعاس. لكأن الأغصان تسكر حين تسمع غناء الشحارير، وتغريد البلابل، فتتمايل نعسى مما ألمّ بها عند سماعها هذه الأصوات الشجية العذبة. نعم قد تُصدر الأشجار أصواتًا، لكن عند هبوب الرياح، لا عند سماع صوت العنادل.
ولذلك تأول المحققان في الهامش (5)، ص217: بأنه لعله أراد بالنوح (البكاء) التمايل، فذهبا إلى المجاز وهو معنى بعيد، لا يصيب الغرض، ولا يؤدي المعنى المطلوب، والله أعلم.
إلى هنا نكون قد انتهى بنا الحديث عن علَم كبير من أعلام الشعر والعلم والأدب، فرحم الله القاضي عبدالرحمن الآنسي، ونفعنا بعلومه.
*كاتب يمني
تعليقات