Accessibility links

إعلان
إعلان

عبدالباري طاهر*
عبدالحبيب سالم قلم جبار ومزلزل.. هذا الفقير إلا من القيم والأخلاق والشجاعة والكفاءة استطاع في زمن قياسي أن يتصدى للفساد والاستبداد، وهما في عنفوان قوتيهما. وتبوأ مكانة مرموقة كواحد من أهم الصحفيين المدافعين عن الديمقراطية بشجاعة فادٍ وإنسان لا يخاف. في زمن لا يتجاوز بضعة أعوام برز اسم عبدالحبيب سالم. ومن خلال مقالاته “الديمقراطية كلمة مرة” في صحيفة صوت العمال كواحد من أهم الصحفيين على الإطلاق. تصدى للانحرافات والزيف والطغيان في ثمانينيات القرن الماضي. كنت أزور بين الحين والآخر صحيفة الثورة والمؤسسة العامة للصحافة، فتعرفت عليه.

عبدالحبيب سالم

 

كان الطالب الثانوي حينها قد امتشق القلم الأقرب شبهًا بمشرط الجرّاح الماهر منه بأداة الكتابة بسرعة البرق بدأ العمليات الجراحية، أو حتى فلنقل القتالية في “صوت العمال”. عنْوَن الجرّاح أو المقاتل مقالاته بـ”الديمقراطية كلمة مرة”. منذ الطلقة الأولى “للكلمة المرة” اهتزت أركان الطغيان، وشعر الطغاة بخطر التهديد من كلمة هي الأقوى من ترسانة الأسلحة الفتاكة التي يملكونها ويتقنون استخدامها.  كانت قذيفة سالم بعيدة المدى. يستحيل الرد عليها بقذائف الدبابات، أو قصف الطيران، أو الصواريخ، فالكلمة الديمقراطية سلاح القرن العشرين والمستقبل، فهي المبشرة بالربيع العربي الآتي، ولكن للأسف الشديد لم يكن صانع الكلمة المُرّة حاضرًا ليشاهد ما صنعته الكلمة. لم يكن جسد البوعزيزي المحترق في تونس وحده من أشعل الربيع في الأرض العربية، وإنما الكلمة المرة “الديمقراطية” هي الأخرى قد أسهمت في “شعللة الربيع العربي”، فمن الكلمة “كُن” كانت السماوات والأرض وما بينهما، ومن الكلمة الديمقراطية انهارت أنظمة، وتداعت كيانات في أصقاع الأرض.

 عبدالحبيب سالم مقبل، ابن قرية الزبيرة – قدس، تعز، من مواليد 1961. درس الابتدائية والإعدادية في الحديدة، وأخذ الثانوية في صنعاء. عمل لفترة قصيرة في مؤسسة سبأ للصحافة. تخرج في كلية الشريعة، كما تقول سيرته في الكتاب التأبيني الذي أصدره رفيقه السفير عز الدين سعيد. الكتاب المتوسط يقع في 218 صفحة. تضمّن جلّ مقالات الصحفي الفادي “الديمقراطية كلمة مُرة”، والتي تصدت لنشرها صحيفة صوت العمال. وتعرضت الصحيفة ورئيس تحريرها الصحفي القدير محمد قاسم نعمان لمتاعب جمّة. كتب سالم في عدة صحف، وتبوأ موقع نائب رئيس تحرير صحيفة الجمهورية الصادرة في تعز، وكان رئيس التحقيقات فيها. ولكن الكلمة لم تًزهر وتثمر إلا في صحيفة صوت العمال في تسعينيات القرن الماضي.

عبدالحبيب صحفي مستقل، عضو في نقابة الصحفيين، وفي اتحاد الأدباء والكتّاب. استقلاليته وذكاؤه الشديد وعمق إحساسه بمعاناة الشعب وتنقيبه عن حقيقة الوضع وما يدور في دهاليز السلطة مكّنه من تناول القضايا الأكثر خطورة والأشد سخونة، والتي يخاف الكثير من الصحفيين والمعارضين السياسيين مجرد الاقتراب منها. 

ويبدو أن فدائية ابن سالم قد أسهمت في حمايته. وكان عبدالحبيب يتصرف في حياته بعفوية وتلقائية كأيّ إنسان. لم يطلب وظيفة أو منصبًا، وعندما تعرض لمتاعب القلب لم يستنجد بأحد، وهو عضو في مجلس النواب. قدّمه قلمه الآسي لدائرته في تعز، فانتُخب رغم مواجهته للحكم الفاسد والمستبد ورموزه الطغيانية.

عبدالحبيب إنسان بسيط ومتواضع، واجه بشجاعة منقطعة النظير جبروت نظام صالح، وفتح أخطر ملفات الحكم وطبيعة الدكتاتورية. في البداية تحدث عن الخوف والسياسة، ولكنه تركهما وراءه، وتناول خطابات الرئيس ونائبه البِيض ووجود خلل فيما يقولان، وتنبأ بالمآل الكارثي، وقرأ عميقًا تناقضات دولة الوحدة. كما تناول تخريب العقل والضمير. درس طبيعة الإشاعات بين الحزبين الحاكمين. كما تناول الطفولة الحزبية لدى كل الأحزاب. كان شديد التتبع لمجرى الأحداث. كما تناول محاولة اغتيال الجاوي، واستشهاد رفيقه حسن الحريبي.

ويتناول دعاوى الحكم العربي، ومنه اليمن. ويشيد مؤكدًا على الحريات الصحفية التي تحققت بفضل الوحدة. ويفضح الدور القذر لجهاز الأمن السياسي، وارتباط بعض الوزراء به. ويفتح النار على كذب الحاكم، ويشبّه الحاكم بشرطي المرور، وتحويل المواطنين إلى رعية، ويقرأ دور الفكر السلفي في تطويع الشعوب لقبول الاستبداد، مستشهدًا بقول ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية بأنّ بقاءهم ستين سنة تحت حكم إمام جائر لَخير من ليلة واحدة دون حاكم. ويتناول أهمية الحكم المحلي الذي يستحيل الاستقرار بدونه، وينتقد بعنف المزايدة السياسية والطائفية. والأهم فتح ملفات الفساد والاستبداد، والسخرية منهما حدّ الهزء، وهو ما رفع من سقف الانتقاد في صحف المعارضة والأهلية المستقلة. كما استنهض المواطن للجهر بنقد الفساد وإدانته وبأصابع ضوئية أشار إلى الرئيس صالح وعصابته الحاكمة، وإلى شيخ البيعة عبدالله بن حسين الأحمر وعنجهيته وجهله وارتباطاته المسيئة.

كانت انتقادات الصحفي الفادي والقدير من المقدمات الأولى لإشعال ثورة الربيع في اليمن. تمسخر بالرئيس العادل، ودعا إلى البحث عن زعماء، وكشف عن أعماق أزمة السلطة، وكشف ضعف الأحزاب وهشاشتها، وسخر من فقه الضرورة لدى الإصلاح. واجه جبروت حكم الطغيان والفساد دون حماية من قبيلة أو مساندة من حزب. وعندما وهن قلبه لم يجد قيمة العلاج.
بعد أن استقال من مجلس النواب، وبعد أن خاب أمله في الكتلتين الكبيرتين: المؤتمر والاشتراكي، وبمساعٍ من صديقه الحميم السفير الأستاذ مصطفى نعمان وافق صالح على خروجه للعلاج في الخارج، ولكن الموت كان أسرع.

مقالات عبدالحبيب سالم بحاجة إلى استيفاء من الصحف التي كتب فيها والمقالات التي لم تنشر لسبب أو لآخر. وقراءتها واستخلاص العِبر منها، فهي أعمق وأصدق قراءة لحكم صالح، والحالة التي وصلنا إليها.

نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق.

   
 
إعلان

تعليقات