وجدي الأهدل
جلالتي سائق باص لا يُحمدُ من ابتلاني به، حجمه ومظهره يشبه الفأر، وأجني ما يُستحى من ذكره.. كثيرون يهتفون هكذا: «يا فأر»! فألتفتُ بصغار مدركًا أن ذاك التقليل من الشأن موجه لي، وأن أحدهم يريد الركوب معي.
حتى في أحلامي أواصل قيادة الباص ونقل الناس.. وعمومًا كنتُ أتقيد بقواعد المرور في صحوي ومنامي، باستثناء حلم واحد فقدتُ فيه صوابي، حينما رأيتُ راكبًا دفع لي الأجرة بيتًا من الشعر، ثم انصرف يتغندر بخيلاء، فطفقتُ أُطارده، وقد أزمعتُ دهسه، فما زلتُ خلفه أقود بإصرار حتى اصطدم باصي بجدار، ودخلتُ إلى مرقص فيه بار، ثم أيقظني من نومي نهيق حمار!
تشاءمتُ من الحلم ووقع في خاطري أنه إنذار، ولتعسي صدق ظني، فوصلني إخطار بسرعة الوصول إلى المطار!، لستُ من صنْف الرجال الذي يخاف من أول وهلة، ولكن المتصل أرعبني بلهجته الصلفة المنفوخة بالاحتقار!
كاد الفضول يزلقني، لكنني قررتُ آخر الأمر ألّا أُريهم وجهي.. أفطرتُ في كافتيريا الصلوي، بأربع حبات «خمير» مقرمشة، وشاي حليب سكر زيادة.. لا أُصدّق كيف بلعتُ هذه الوجبة ولم أُغص بها، لأنني طوال الوقت كنتُ أتلفّتُ كمجرم مطلوب للعدالة.
نشطتُ للعمل فجمعتُ غلة جيدة، ألهتني عن بداية اليوم المقلقة.. بعد انقضاء ذروة العمل – ساعة خروج الموظفين والطلاب – قررتُ شراء سمكة والعودة، لكن ما إنْ دنوتُ من بيتي المتداعي الثلاثي الأضلاع، الشبيه بالجبنة المثلثة حتى حاصرتني كتيبة من جنود الأمن المركزي المدججين بأخطر أنواع الأسلحة.. نططتُ من باصي مثل سوبرمان، وارتميتُ على الأرض ويداي ورجلاي مرفوعتان، وكنت أهتز كالجان من هول البلوى، وأحاول نطق الشهادتين دون جدوى.
أخبرني ضابط رفيع الرتبة، على كتفيه عش بطة، أن القوات الأمنية المدربة بعدد لا يُحصى من دورات الصاعقة، قد تمكنت، بعون الله، من اقتحام أسوار منزلي المحصّن، وأسروا أطفالي العشرة، وأخذوهم رهائن، بينما استسلمت زوجتي الرعديدة لقوات الحكومة بسرعة!
اقتادوني إلى المطار في سيارة مموهة مصفحة، والدراجات النارية تخفرني من أمامي ومن خلفي استكمالاً لمظاهر الأبّهة، وصوت رغائها يصم الأسماع، ويُدخل الرهبة في أفئدة الرعاع، وفخامتي معصوب العينين، مغلول اليدين، أُلقَّم اللوم المصحوب بالركلات، وأتنعَّم بالسباب المُحلى بالصفعات، فصرتُ كباب باصي المخرب، مضْرَبة لكل من هبّ ودبّ!
ولمّا وصلنا بسلامة الله وحفظه، ساقوني كتاجر مخدرات إلى صالة الجمارك، وأزاحوا عن عينيَّ العصابة، وأوقفوني بين يدي كهل تبدو عليه آثار النعمة، كرشه مندلقة، ورقبته ثخينة، يرتدي بدلة أنيقة بلون القشطة، ويحجب عينيه بنظارات سوداء جعلته مرقطًا كقطّة..!، صافحني بمودة مصطنعة، وسألني إنْ كنتُ أعرف أحدًا في المملكة المتحدة، فنفيتُ حتى هممتُ أن أُقبِّل رجله، فما كان من المسؤول إلا أنْ فغر فمه، وتحسس نابيه العلويين بالإبهام والسبابة. رمى شحمه على كرسي مُخلع له صرير، وأفشى السر الخطير: «لقد وصلك طرد من بريطانيا».
شممتُ رائحة غريبة في كلامه، فلزمتُ الحذر ولم أرد.. طلب عالي المقام إحضار الطرد، ورشقني بنظرات تشي بالحقد. لا أدري ما الذي ينقمه عليّ، ولكنه عاود إمساك نابيه، وكأنه يود لو يأكلني!
بعد دقيقة أحضر الجنود تابوتًا ثقيلاً صُنع من خشب الصنوبر، ملصق في عرضه مظروف أصفر.. أشعل المسؤول سيجارة الحماقة، وطلب أن أوقّع بالموافقة على تفتيش التابوت وفحص محتويات الرسالة المرفقة.
دنتْ مني أنبوبة غاز بقلم وورقة، فوقعتُ عليها مباشرة.. صدرتْ ضحكة مُغيظة من أنبوبة الغاز ذات الرائحة البغيضة، فأمسكتُ نظارتي وحدقتُ فيها مليًّا، فإذا هو جندي سمين قصير، يتغنج بابتسامة تُحاكي ابتسامة الموناليزا!
فتحوا التابوت فإذا فيه هيكل عظمي مندثر، فطار صوابي وأيقنتُ أني قد وقعتُ في مصيدة نصبها لي القدر.. مزقوا الظرف واستخرجوا رسالة مطوية، وعبس وجه المسؤول حين رأى أنها باللغة الإنكليزية، فصرخ آمرًا بإحضار مترجم.. أشار ضابط وضيع الرتبة إلى شخص اسمه (فرحان) يعمل مراقبًا في برج الملاحة الجوية، قالوا إنه تعلم الإنكليزية الأصلية في مجاهل القارة الإفريقية.
وما كاد المسؤول المُترهل يعطف أنملة سبابته حتى هب الجنود البواسل لإحضاره. بعد بضع دقائق جلبوا الشاب المُسمى (فرحان) وبيده العصا البيضاء الخاصة بالمكفوفين.. كانوا يدفعونه بخشونة ويتواثبون حوله ويصيحون صيحات عنترية في وجهه، ولما ضجر أحدهم من بطئه، إذ كان يتحسس طريقه بعصاه، سدد له ركلة متقنة أسفل ظهره.
ناولوه الرسالة فأمسكها بيدين مرتعشتين، وكخبير في لغة شكسبير، قال بلسان مبين: «السيد وضاح اليماني المبجل، تحياتنا الحارة، أزف إليكم البشرى بأن زوجي آرثر وهو عالم آثار، قد حفر الأرض كعادته، وعثر على الصندوق الذي مات فيه جدك الشاعر العظيم وضاح اليمن. وهذا الاكتشاف الأثري المهم سوف يحسم الجدل بشأن الشاعر، ويؤكد بالأدلة أنه شخص حقيقي وليس شخصية أسطورية.. لقد قررنا أنا وزوجي تسليم الصندوق الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي إلى المتحف الملكي البريطاني، نظرًا لقيمته الأثرية التي لا تقدّر بثمن.. وأن نرسل رفات الشاعر إلى أحد أحفاده في اليمن.. وبعد إجراء التحريات البوليسية اللازمة، اخترناك أنت، لتنال شرف استلام عظامه الموقرة، ودفنها بالمراسم اللائقة، فتنال روح الشاعر الراحة الأبدية بدفن بقاياها في تراب الأجداد.. ومرفق لعنايتكم مبلغ خمسة آلاف جنيه إسترليني مخبأة داخل النعش، لتغطية تكاليف الجنازة وبناء الضريح.. مع أطيب التحيات.. المرسل أجاثا كريستي».
بعد فراغه من الترجمة أراد (فرحان) إعادة الرسالة، فاصطدمت كفه دون قصد بخد المسؤول، وبسرعة البرق ركله الحارس الشخصي في خصيتيه، فسقط على الأرض متكورًا على نفسه كالدودة، حتى قيل إنه من شدة الركلة عاد إليه بصره..!
أمر المسؤول بتفتيش التابوت بحثًا عن الجنيهات الإسترلينية، فانقض الجنود كالنسور الجائعة، وبعثروا عظام الشاعر في كل اتجاه، ثم فككوا التابوت قطعة قطعة، ولكنهم عجزوا عن كشف مكان النقود.
رحلوني إلى مكان مجهول، خمنتُ أنه أحد مقرات المخابرات، وهناك حُبستُ في قبو مظلم اختفى فيه شعوري بتعاقب الليل والنهار، ونسيت مرور الزمن.. سألتُ رفاقي في الزنزانة، وهم رهط من المثقفين عن الشاعر وضاح اليمن، فخرجتُ بقدر لا بأس به من المعلومات عنه، وموجزها أنه شاعر وسيم وسامة مفرطة، ظهر في زمن الخلافة الأموية، وتغزل بأم البنين، زوجة عبدالملك بن مروان خليفة المسلمين، فتأثرتْ بشعره وراسلته، ثم أدخلته إلى جناحها، فلبث أيامًا إلى أن رآه أحد الخدم فأبلغ الخليفة، فلما أتى إلى جناحها خبأته في صندوق زينتها، ولم تسمح له بتفتيشه، فأمر الخليفة بحفر حفرة في حديقة القصر، وإخراج الصندوق ودفنه بما فيه.. وهكذا فطس وضاح اليمن ومات ميتة الكلاب!!
تذكروني بعد شهور، وأفرجوا عني بعد أن كتبتُ تعهدًا للسلطة نيابة عن جميع أحفاد الشاعر بأننا لن نكرر تلك «الفعلة الشائنة» مرة أخرى!
تعليقات