Accessibility links

إعلان

بلقيس محمد علوان*
عادت بي ذاكرتي إلى اليوم الذي تم فيه إعلان افتتاح قسم الإعلام – جامعة صنعاء، يومها فاتحت أهلي برغبتي في الالتحاق بالقسم الناشئ… قبلت أمي متخوفة، وشجعني أخي عادل، لم تكن موافقتهم اقتناعًا بقدر ما كانت تعاطفًا مع الفتاة التي حصلت على المركز الأول في الثانوية العامة بعد شهور من وفاة والدها، الذي كان شرطه الوحيد لقبول التحاقها بالقسم الأدبي أن تحصل على المركز الأول في أوائل الجمهورية، بالمقابل حاول كثيرون من أقاربي من جهة أبي ومن جهة أمي إقناعي بالالتحاق بكلية التربية في محافظتي إب، مبدين عدم ارتياحهم لموضوع سفري إلى صنعاء، وعدم ارتياحهم أكثر لرغبتي في دراسة الإعلام، لكنني بعد محاولات عدة غادرت مدينتي متوجهة إلى صنعاء لدراسة الإعلام، ومرت سنوات الدراسة، وتقاطعت مع عملي في بعض الصُحف والإذاعة كمتعاونة، وظل القلق يساور أسرتي بشأن عملي في الصحافة، لكن قلقهم خف قليلاً مع انخراطي في العمل الأكاديمي، لكنني لم أتوقف عن الكتابة.

 في قسم الإعلام كان عدد الطالبات في الدفعة الأولى لا يتجاوز ربع عدد الطلاب.

لم يكن تخصص الإعلام للبنات مرحَّبًا به، ولا مشجعًا له مجتمعيًّا، وحتى في قلب الجامعة كان يُنظر لطلاب الإعلام جميعًا نظرة فيها من الشكوك والازدراء الكثير.

 واصل أغلبنا دراسة التخصص، وكثير من متخرجي كلية الإعلام عملوا في الصحافة المطبوعة أو في الإذاعة أو التلفزيون، وظل القسم ومن بعده الكلية يستقبل ويؤهل دفعًا متتالية من الطلاب والطالبات، وزادت الأعداد، ورفدت المؤسسات الإعلامية بمختلف خلفياتها وأنماط ملكيتها بالعشرات والمئات من متخرجي كليات وأقسام الإعلام في الجامعات اليمنية، ومن قبل ذلك كانت العشرات من الصُحفيات من تخصصات دراسية مختلفة يعملن في وسائل الإعلام المختلفة، ووفقًا لتقرير لمركز الدراسات والإعلام الاقتصادي صدر في العام 2017: تشكل العاملات في الإعلام من النساء نسبة 20 % من إجمالي العاملين في وسائل الإعلام، و11 % من أعضاء نقابة الصُحفيين اليمنيين فقط، ومع هذه النسب المتواضعة لم تكن مهمتهن سهلة، كما لم يكن وضعهن المهني منصفًا في أغلب الحالات، وفي حقيقة الأمر فقد كانت دراسة الإعلام للفتيات أهون بكثير من امتهانه، ولست أبالغ إن قلت: إن مهنة الصحافة وعمل المرأة في الإعلام من أصعب المهن، وأكثرها كلفة، نفسيًّا واجتماعيًّا ومهنيًّا أيضًا، فمنذ اللحظة الأولى للالتحاق بالعمل تبدأ معركة الصُحفية لإثبات ذاتها وتصحيح صورة سلبية عن تواجدها وعملها وسلوكها؛ فهي متهمة حتى تثبت براءتها، وبمجرد التعيين يتم تنميطها وفرض ما يجب أن تكتب أو تعمل فيه وحوله، ومكانها برامج المرأة والطفل وملاحق الأسرة في الصحف، وتكلف بتغطية أخبار وزارة الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية، وعندما تلوح فرص التدريب فلن تكون مرشحة إلا في حالات محدودة للغاية، أما فرص السفر فنظرة بسيطة لفرص الصحفيات مقابل الصُحفيين سوف توضح الفرق، وحتى مع افتراض كون المؤسسة بيئة عمل متحسسة للنوع الاجتماعي، وهو احتمال ضعيف جدًّا، فإن القيود المجتمعية أمام الصُحفية تحديدًا أكثر بكثير من غيرها من التخصصات، فكثيرون تتغير نظرتهم ومعاملتهم سلبًا بمجرد معرفة أنها تعمل صُحفية.

السقف الموضوع للصُحفيات في بيئة العمل أكثر انخفاضًا مما نعتقد، والقلة من الصُحفيات اللاتي حاولن تجاوز الخطوط المحددة وتمكنّ من الصمود، ومع ذلك فلا يخفى على أحد أن الصحفيات هنّ النصع السهل، سمعة الصُحفية، ونسج الإشاعات المسيئة حولها وملاحقتها، وتضييق الخناق عليها هي الممارسات الأقرب للتخلص من أيّ صحفية، ونتذكر جميعًا العديد من القصص والوقائع التي تعرضت لها العديد من الصُحفيات على خلفية عدم الرضا أو الاختلاف.

ومنذ بدء الحرب أصبح الصُحفيون رجالًا ونساء في وضع هو أشبه بحقل الألغام، وفرضت الأوضاع عليهم تحديات كبيرة؛ فكثيرون منهم غادروا اليمن، وكثيرون اعتُقلوا، وكثيرون تواروا وتوقفوا عن الكتابة أو العمل الصحفي، أما العاملات في الإعلام، صُحفيات ومذيعات ومعدات برامج، وحتى في الأقسام التقنية والهندسية، فقد انحصرت فرصهن، وتلاشت وفقدت العشرات منهن أعمالهن مع إغلاق بعض القنوات وتوقف الكثير من الصحف، ولكن العامل الأهم في توقف أغلب الصحفيات والعاملات في مجالات الإعلام المختلفة هو الخوف وانعدام الأمن، الخوف من الملاحقة والاستهداف الشخصي لها أو لعائلتها، وأصبح الأسلم هو المكوث في البيت أو الالتحاق بعمل آخر، وهو خيار ليس متوفرًا في أغلب الحالات.

في كل سنوات الدراسة ومع العمل الأكاديمي أحرص على الاستمرار في الكتابة، ولكن عندما أكتب قصة إنسانية، أو مقال رأي، أو أي موضوع صُحفي آخر مقروءًا أو مرئيًّا مثلاً أظل أغربله وأعيد قراءته مرات ومرات، وأعدل في صياغته، ولا أرسله إلا بعد التأكد من أن محتواه مسالم للغاية، ومع كل ذلك الحذر أتعرض للنقد: لِمَ قلتِ كذا؟ ولماذا لم تقولي كذا؟ لقد أصبح حارس البوابة الذاتي هو الأقوى في فلترة المحتوى خوفًا من التصنيف والتنميط والتهديد، والفهم الخاطئ.

ولم يعد الرضا الوظيفي ولا الأمن الوظيفي ما يشغل بال الصُحفية والعاملات في مجال الإعلام في اليمن عمومًا.. فما يشغل بالهن هو السلامة والأمن الشخصي، ولذلك آثر أغلبنا السلامة: منا من توقفت، ومنا من غادرت، ومنا من غيرت مكان إقامتها اعتقادًا أن ذلك أكثر أمنًا، ومن ذلك المكان الجديد يمكن أن تواصل عملها كصُحفية، لكن الحقيقة المروعة أن الصُحفية في اليمن ليست في مأمن ولا حتى الجنين في بطنها في مأمن.

*أكاديمية وكاتبة يمنية

   
 
إعلان

تعليقات