عبدالله الصعفاني
المدينة القديمة من الداخل… ما لا يعرِفه الزائرون عن صنعاء..!
هل سمعتم حكاية الشاعر العظيم الذي دخل مطعمًا منفردًا، وهو في مهمة خارج بلده فلم يطلب من النادل وجبة فطور واحدة وإنما وجبتين؛ وجبة له والأُخرى للمدينة التي يحبها.
إنه رائي اليمن، الفيلسوف والشاعر الكبير عبدالله البردوني الذي وصف الموقف في ذات مطعم وذات قصيدة.. وقال:
طلبت فطور اثنين قالوا بأنني/ وحيدٌ فقلت اثنين إنّ معي صنعاء
البردوني في هذا البيت الشعري استدعى حالتين… حالة اليمني عندما يحمِلُ قريته أو مدينته في قلبه حتى لو أدهشته في مهجَره الطويل أو القصير ناطحات سحاب وضجيج شوارع مُدن مُبهِرة، والحالة الثانية تحدّيات معيشية ما تزال تواجه اليمني بسبب متواليات الأزمات وتداعيات الصراعات والحروب حتى صار الفقر لازمة سلَّمت شريحة شعبية كبيرة لِطحين منظمات إنسانية أصابها الفساد، فمَن تكون صنعاء التي دفعت البردوني لِأنْ يحملها في سفره، فتُقاسِمه الهاجس الشعري ووجبات الفطور؟!..
شخصيًّا أفخرُ بأنّ مزاجي لا يعتدلُ إلا بزيارة صنعاء القديمة، ولو مَرّة في الأسبوع، فما الذي يقفُ وراء هذا الشَّغف؟، وكيف لِمدينة قديمة أنْ تفرض حبها عليك فتتوغل مفردات الصبابة في دمك وتلافيف ذاكرتك؟!.
وعلى كَثْرة مَن تحدّثوا عن صنعاء، (يمنيين وعربًا وأجانبَ)، هناك جماليات لصنعاء ما تزال مجهولة عند الكثيرين؛ ما يجعلُ الحديث عنها قاصِرًا ومُبْتَسَرًا بدون استكمال كلّ نقاط الضوء.
صنعاء القديمة ليست فقط مدينة تاريخية وحضارية تزدان بالقصور والتُّحَف المعمارية ذات القيمة التاريخية، وما إلى ذلك من منتجات نحاسية وفِضِّية وغيرها من الصناعات اليدوية، وإنما مدرسة حضَرِيّة في التخطيط والنظام، فضلًا عن منظومةٍ مِن القِيم الأجمل والأكمل.
المباني السكنية في أحياء صنعاء القديمة مُبهِرة، تتلون في عين الناظر تبَعًا لدرجة سطوع الشمس ومستوى الإضاءة، ولكلِّ ساعة جمالها في عيون مَنْ يتأمل واجهاتها المثيرة.
لم تُفخَّخ أحياء صنعاء السّكنيّة بالدكاكين؛ لِأنّ للأسواق مربعاتها الخاصة، والأسواق نفسها متخصصة… سوق للحبُوب، سوق للقماش، سوق للجنابي، سوق للزبيب، وقائمة الأسماء طويلة.
يُعقّبُ الدكتور محمد العسالي – أحد أبناء صنعاء القديمة – على كلام لي عن أسواق صنعاء، فيسردُ بعض مظاهر السلوك الحضاري قائلًا: تخصص الأسواق وعدم اقتحامها لِهدوء المساكن ليس سوى جزء من تفاصيل كثيرة مُبهِجة.. المقاشم الكثيرة التي تتوسط كلّ حيّ هي حدائق ومتنفسات للبيوت المطلّة عليها.. الحمامات الدافئة المجدولة، أيامٌ للرجال وأيامٌ للنساء، التزام كلّ ساكن بتنظيف أمام بيته، وما إلى ذلك من الصوَر الجميلة.
وعن ارتفاع منسوب الذوق العام في هذه المدينة، فإنّ الباب الصنعاني يحتوي على مطرقتين: مطرقة كبيرة قوية في صوتها تُعطِي إشارة بأنّ الطارق رجُل؛ فيتولى أحد الرجال مهمة فتح الباب من الداخل واستقبال الطارق، ومطرقة صغيرة خفيفة وناعمة الصوت تطرُق عليها المرأة لِتكون ربّة البيت هي مَن تفتَح.
وعندما تغادرُ الأسرة المنزل لِأيّ سببٍ فإنها ترفعُ المطرقة الحديدية إلى الأعلى في إشارة إلى أنه لا أحد في البيت.
وهُنا أتذكر كيف تغيّرت صور الإحساس بالأمان مع تطور الجريمة.. باختصار بعضنا لا يغادر بيته إلا بعد أنْ يُبقِي بعض الغرف والممرات مضيئة؛ ما يوحي بأنّ في الداخل مَن يسكُن، فيما الضوء أو جهاز التليفزيون مجرد نسخة من خيال المآتة الذي يستخدمه المزارعون لتخويف العصافير واللصوص.
الباب الصنعاني يحتوي على مِطرقَتين: مطرقة كبيرة قوية في صوتها تُعطِي إشارة بأنّ الطارق رجُلٌ فيتولى أحد الرجال مهمة فتح الباب، ومطرقة صغيرة خفيفة وناعمة الصوت للمرأة لِتكون ربّة البيت هي مَن تفتحُ الباب
وكانت صنعاء محور حديث لي مع بعض أبنائها، ومما أدهشني مظاهر سلوك غاية في الرُّقِي والتواضع والأخلاق.. على سبيل المثال: عندما يشب خِلافًا بين الأولاد، وهم يلعبون أو يصدر من الجار أيّ سلوك مزعج فإنّ المتضرِّر لا يتخذُ أيّ ردّ فعْل متشدد أو يتوجه مباشرة إلى السلطات، وإنما يتوجه إلى كبير العائلة التي جاء الخطأ من أحد أفرادها، وينتقدُ ما حدثَ، ويحصلُ على ما يُرضيه لِيتِمّ حلّ الإشكال بطريقة تُبقِي على المودة، وتمنعُ أيّ التباسٍ أو سوء تفاهم يورث العداوات أو الحزازات.. وللسوق في صنعاء القديمة شيخها الذي يضبط قِيم السوق وأخلاقيات البيع والشراء، وحتى الخيول والبغال والحمير التي تخرج عن الخدمة بسبب الكِبَر أو الإعاقة كانت تحظى بمقر تُقِيمُ فيه داخل المدينة، وتعتمد في معيشتها على صدقات الناس حتى تموت داخل ما يُسمّى سوق العِرْج؛ ما يدعو لتباهي اليمني بماضي عاصمته أمام شخصيات ومؤسسات الدفاع عن الحيوان في العالم.
وما يُثيرُ الإعجاب أنّ مَن يبيعُ مِن دكانه شيئًا في الصباح الباكر لا يبيع السلعة التالية لزبونٍ إلا بعد أنْ يكون البائع في الدكان المجاور قد باع هو الآخر شيئًا، حيث يقوم الأول بإنكار وجود السِّلعة المطلوبة، ويومئ للمشتري بأنّ ضالته موجودة في دكان مجاور.
وهنا يمكن القول إنّ ذلك السلوك التعاوني المتسامح الذي كان يؤثِرُ الآخر على النفس ليس بعيد التأثير في الجو العام بصنعاء اليوم حتى وقد توسعت من كلّ الجهات بصورة كبيرة، وتضاعَف عدد سكانها، حيث بقيتْ صنعاء كعاصمة تاريخية حاضنًا لليمنيين جميعًا، في زمن السِّلْم وزمن الحرب، وكلّ متواليات التوتر والصراع الحزبي والجهوي.
وليس من المبالغة في شيء التأكيد بأنه حتى الذين يتواجهون في جبهات الحرب تركوا أُسَرهم في صنعاء بصرف النظر عن أماكن وقوفهم داخل مربعات الصراع الجهوي هنا وهناك، في هذه الجبهة أو تلك.
على أنّ ما يرسم الأسف والحسرة في النفس هو ما تعرضَتْ له المدينة بِتُحَفِها المعمارية ذات القيمة التاريخية من التدمير بقصفٍ فاجر من الطيران وبالأمطار والإهمال؛ ما يثير مخاوف حقيقية من تحوُّل أجزاء مِن هذه المدينة التاريخية العظيمة إلى خرابات ومساكن مهجورة.
وعندما قال ابن صنعاء، صديقي طه الهندي، إنّ بيته تهدّمَ تمامًا من الأمطار، قلتُ له: إعادة بنائها ليست مسؤوليتك وحدك، إنها مسؤولية الحكومات، بل ومسؤولية العالم الذي أعلنها إحدى المدن المهمة في قائمة التراث الإنساني… وليت كلامي لم يكن أحد أحلام الصباح.
أمْر آخر، لا بُدّ أنْ ينتبه مَن يفرضون أنفسهم على رأس الجهات الرسمية والأهلية المسؤولة عن المدينة إلى ضرورة الحفاظ على الطابع التاريخي والتراثي لصنعاء، والعمل على أنْ يكون تجديد واجهة أيّ مبنى أو محل مُحاكيًا لتصميمه الأصلي، وتشجيع المِهنيين والحرفيين على المزيد من الاهتمام بالمصنوعات المستوحاة من التراث الصنعاني، خاصة بعد الذي كان ويكون من غزو المنتجات الصينية لِقيم تراثية طالت كلّ شيء، ولم تَستثنِ حتى الجنبية اليمنية الشهيرة.
تعليقات