وجدي الأهدل*
هل يمكن أن يمتزج الجبلي والصحراوي؟ الجواب هو لا، مع الأسف؛ فهما عنصران مختلفان متنافران.
وهذا التنافر الذي أوجدته التضاريس أزلي، قد يختفي لفترات تاريخية مؤقتة، ولكنه سرعان ما يعود ليهيمن من جديد، فهو قدَر لا مفر منه.
هذه الحتمية الجغرافية هي السبب في استعار العِداء حينًا وخفوته في أحايين أخرى بين سكان الصحراء وسكان الجبال.
وأما مسألة الاختلاف المذهبي هذا سنّي وذاك شيعي، أو الاختلاف السياسي من قبيل هذا من أنصار الله وذاك من أنصار الشرعية، فما هي إلا أقنعة يرتديها الممثلون وهم لا يعلمون، لتمثيل دورهم في هذه المسرحية المأساوية التي أنتجتها وأخرجتها التضاريس والمناخ والضغط الجوي ونسبة الأوكسجين ووفرة المياه، أي باختصار (الطبيعة).
هذه هي الحقيقة التي أُميط عنها اللثام: الحرب الدائرة اليوم ومنذ ثماني سنوات، هي صراع ذو طبيعة جغرافية، خلقه التباين بين الجبل والصحراء، وأما الاختلاف المذهبي والسياسي فهما مجرد قشور أو ماكياج تختفي خلفه الجذور الأصلية للصراع.
أقول للإخوة الأعداء اليمنيين أفيقوا من غفوتكم، وتمعنوا في القدر الجغرافي الذي وجدتم أنفسكم عالقين فيه، وستدركون أن ما تحاربون لأجله مجرد ذرائع مؤقتة سوف تختفي بعد حين، وبعد أجيال ستظهر ذرائع أخرى غيرها لتظل جذوة الصراع مشتعلة إلى آخر الأيام.
وكما أننا مسلمون بسبب مصادفة جغرافية، فكذلك نحن نولد بمزاج معين بمصادفة جغرافية أيضًا.
هل لاحظنا أن سكان الصحراء في السعودية والإمارات ومأرب وأبين قد اصطفوا في كتلة واحدة واضحة المعالم، وأن سكان الجبال قد وحدوا صفوفهم تحت راية الحوثيين..
هناك أكوام هائلة جدًّا من الخطابات السياسية والثرثرة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكن كل هذا الهراء يمكن اختزاله في أنه صراع سيطرة على الأرض بين البدوي والجبلي.
هذا التنافر بين البدوي والجبلي قديم قِدم التاريخ، فدولتا معين وسبأ ارتكزتا في قوتيهما على القبائل البدوية، ثم جاءت الدولة الحميرية التي نقلت عاصمة البلاد إلى ظفار في محافظة إب، واستندت في إرساء حكمها على القبائل الجبلية.
والظاهر أن هاتين الكتلتين الكبيرتين (الجبليين والصحراويين) ظلتا تتنازعان – تحت مسميات ورايات مختلفة – حكم اليمن خلال الخمسة آلاف سنة الماضية.
هناك صراع تعيشه الطبيعة نفسها، فالصحراء تريد التمدد لتغطي بكثبانها الرملية مساحة جغرافية أوسع، وتسمى هذه العملية بـ”التصحر”، بينما تسعى الجبال إلى نحت الأرض وتجريدها من التربة.. وينعكس هذا الصراع الذي يحدث في الطبيعة على البشر أيضًا.
عندما تتمكن كتلة بشرية من توحيد صفوفها تحت راية ما، أو دعوة ما، أو ملك ما، فإنها تتمدد خارج بيئتها الجغرافية، وتطمح إلى أن تحكم اليمن كاملًا، فإن كانت صفوف الكتلة الأخرى متداعية وقواها مفككة، فإنه سيُكتب للكتلة المتماسكة النجاح في مسعاها، وستتمكن من التوسع خارج نطاقها الجغرافي المعهود، وبالتالي بسط نفوذها على اليمن بسهوله وجباله.
فإن شعرت الكتلة الأخرى بالخطر يتهدد وجودها، فحشدت قواها وانتخبت قائدًا يوحد صفوفها، فإنها ستتمكن من صد جحافل الكتلة الغازِية وطردها خارج “الحِمى”، فتعود الأمور إلى نصابها، وتبقى كل كتلة متحصنة في نطاقها الجغرافي المخصوص لها.
ليس سرًّا يُذاع أن الجبلي يجيد القتال في الجبال، ولكن مهاراته الحربية تتدنى إلى أدنى حد حين يحارب في الصحاري المفتوحة، وكذلك هو شأن البدوي الذي يجيد الكر والفر في الصحراء، ولكن قدراته العسكرية تتراجع عندما يخوض نزالًا في الجبال ذات الارتفاعات الشاهقة.
عندما كان الملك عبدالعزيز آل سعود يقوم بحملاته العسكرية التوسعية في شبه الجزيرة العربية، فإن قواته بلغت أقصى توسع لها جنوبًا إلى مدينة الحديدة، ولكنه لم يزج بقواته للحرب في المناطق الجبلية الوعرة، رغم أن خصمه الإمام يحيى كان في وضع ضعيف عسكريًّا، ولكنه كان يدرك أنه سيدفع ثمنًا باهظًا إذا غامر بخوض الحرب في نطاق جغرافي لا يناسب مقاتليه الصحراويين.
حتى الفتوحات الإسلامية تسارعت في المناطق الحارة، ثم توقفت عند تخوم البلدان التي تغمرها الثلوج شتاءً.
هناك حاجز صنعته الطبيعة، وبسببه هناك سمات خاصة تُميّز الجبلي عن البدوي، ومن الغباء المفرط تجاهل هذا الحاجز والقفز عليه.
من حُسن حظ الإسلام، كديانةٍ، أن سكان الجبال اليمنيين قد دخلوا في الإسلام سلمًا دون حرب منذ البداية، وإلا لتضاءل حضور هذا الدين بشدة، ولربما لم يكن ليتجاوز مداه بضع قرى وحواضر في الحجاز.
هل هناك أدلة علمية تؤيد وجود سمات مختلفة بين سكان السهل والجبل؟..
نشرت الـ(بي بي سي) تقريرًا يؤكد أن سكان الجبال لديهم جينات موروثة تساعدهم على التأقلم مع نقص الأوكسجين:
“قالت دورية نيتشر العلمية إن الجينات التي تسمح للناس في الوقت الحاضر بالتأقلم مع الحياة فوق المناطق المرتفعة جدًّا موروثة من سلالة منقرضة من البشر.
وتوجد صورة من الجين (EPAS-1)، والذي يؤثر على الأكسجين في الدم، بشكل شائع لدى سكان هضبة التبت، والذين يعيش معظمهم في مناطق يبلغ ارتفاعها 4,000 متر طوال العام.
ويتطابق تسلسل الحمض النووي لهؤلاء السكان مع الحمض النووي الذي عُثر عليه في إحدى السلالات المنقرضة للإنسان القديم، والتي تعرف باسم سلالة “دينيسوفا”.
من شبه المؤكد أن السلالات التي تكيفت مع الحياة في الصحراء لديها جينات تساعدها على تحمّل العطش لفترة أطول من تلك السلالات التي عاشت على ضفاف الأنهار مثلًا.
كذلك أكتشف العلماء جينة فريدة لدى الفنلنديين والشعوب الإسكندنافية تساعدهم على تحمل المناخ القارس البرودة.
هذه الطفرات الجينية تحدث لدى البشر للتأقلم مع البيئة الطبيعية التي يعيشون فيها.
هل يعني هذا الحديث أن الحل للحرب في اليمن هو فصل سكان الجبال عن سكان الصحراء، واستقلال كل طرف منهما بدولته؟ هذا هو الحل الذي قد نلجأ إليه اضطرارًا، وأما الحل الأفضل فهو أن يدرك كل طرف أن الطرف الآخر مختلف عنه، وأن هذا الاختلاف سُنة من سنن الكون، وهذا الإدراك البسيط هو الخطوة الأولى، وأما الخطوة الثانية فهي القبول بهذا الاختلاف.
بدون هذا الوعي الراقي لن يمكن أبدًا إنهاء الحرب وإحلال السلام في اليمن.
*روائي وكاتب يمني
تعليقات