وجدي الأهدل
اجتزتُ الثانوية بتقدير جيد، ثم التحقتُ بوحدة تجنيد وزعتني على معسكر العند. قضيتُ عاماً كيفما اتفق، ثم عدتُ إلى مسقط رأسي في «زبيد». أخبرتُ والدي برغبتي في إكمال دراستي بجامعة صنعاء، فرحب بقراري ودعا لي بالتوفيق.
لاقيتُ في سفري وغداً من شياطين الطريق، نهبني حقيبتي السامسونايت، وفيها شهادتي الثانوية وبطاقتي الشخصية ودفتر الخدمة العسكرية وملابسي الأثرية، والمال الذي أدخرته قرشاً قرشاً من خدمتي في الجيش، والسوار الذهبي الذي وهبته لي أمي سراً، ورسالة التوصية التي سهر والدي الليالي في تدبيجها إلى قريبنا الوحيد في العاصمة مع القصاصة التي تحوي رقم هاتفه.
وصلتُ صنعاء في التاسعة ليلاً – لم يحالف الحظ ذاك الشيطان ليسرق ساعتي- بدون ثياب ولا نقود ولا عنوان أقصده. كان من المستحيل البيات في نُزُلٍ أو لوكاندة رخيصة وأنا لا أحمل ما يُثبتُ هويتي.
سرت حثيثاً وكأني على موعدٍ، وتخبطتُ قليلاً، لأن الشوارع خلت من السابلة والحوانيت أغلقتْ أبوابها فلم أجد من أسأله. بعد ساعة وقع بصري على المبنى المهيب للجامعة، طفتُ حوله باحثاً عن موضع مظلم، فلما وجدته تسلقت السور بيسر وقفزت إلى الداخل، ودبرتُ أموري لأنام وأستعيد قواي. وعند أذان الفجر انتبهتُ وخرجتُ من حيث أتيت، وكانت تلك هي أول وآخر مرة أضع فيها قدميَّ في الجامعة.
لم أُشعِر أهلي بشيء، وجعلتهم يظنون أنني أُحصِّل العلم. قررتُ الاعتماد على نفسي، وترك طموحي في دراسة الإعلام خلف ظهري.
اشتغلتُ ببيع الآيسكريم في نواحي شارع «هايل» القريب من الجامعة. كنت أحمل بيدي الشمال الترمس الذي أحفظ فيه الآيسكريم المتعدد الألوان والنكهات، وبيدي اليمين أُسند كرتوناً معبأ بأكواب البسكويت وفي قبضتي زمارة أُزمر بها لجذب الزبائن.
أنقذني من التشرد كهل أكلت المدينة شبابه، من بلدة «التحيتا» القريبة من بلدتي، لاحظني لاطياً بجدار جامع في ساعة متأخرة من الليل فآواني عنده، وأشركني في مهنته.
لم نكن ندخر شيئاً من كدّنا طوال اليوم، وبالكاد كنا نوفر ثمن وجبات طعامنا. قال (إلياس) إن غلتنا من مبيعات الآيسكريم سترتفع إلى الضعف عندما تبدأ السنة الدراسية الجديدة.
بعد عام امتلكتُ عربة لبيع الآيسكريم، وكذلك صديقي (إلياس). ومن ثم صرنا نستطيع الذهاب إلى أحياء سكنية أبعد، فازدهر عملنا أكثر.
كنا نُشاهد تلك السيارات المزخرفة بالرسوم البديعة والألوان الزاهية فتكاد عيوننا تخرج من محاجرها، ونتمنى امتلاك واحدة منها في المستقبل.
في صباح زمهريري موحش، فتحتُ عينيَّ واستغربتُ جداً أن (إلياس) لم يوقظني لصلاة الفجر. ناديته، رججته، وضعتُ أذني على قلبه فتيقنتُ أنه قد استقال من دوره في الحياة.
اجتاحني هلع بالغ، فجمعتُ حاجياتي البسيطة وما كسبناه بعرق جباهنا وهربت. تعمدتُ ترك باب الدكان مفتوحاً لعل وعسى يتولى فاعل خير غسله ودفنه. خشيتُ أن أُبلغ عن موته فيُقبض عليّ وأُتهم بقتله، ولأنني بلا أوراق ثبوتية، فإن المؤكد أن وضعي سوف يتعقد. وما همني السجن، ولكنني أتجنبُ افتضاح كذبتي، فيعلم أبويَّ بحقيقة أمري.
ظللتُ أخبط في الشوارع وأنا شارد الفكر مبلبل الحس حتى انتصف الليل. رحتُ أحوم حول قصر مهجور لفت خلوه انتباهي، فقررتُ أن أبيت ليلتي فيه. فكرتُ أنه يمكنني أن أتوارى فيه عن الأنظار أياماً إلى أن أستجمع شتات نفسي وأجد مخرجاً مما أنا فيه.
تسلقتُ شجرة كافور وتدليت من إحدى فروعها إلى الفناء، كانت الأبواب والنوافذ محكمة الإغلاق، فكسرتُ إحدى القمريات ودخلت.
من شدة التعب لم أُفكر حتى باستكشاف المكان، فأخرجتُ ثيابي وتدثرتُ بها، ثم تمددتُ وفي ثانية غفوت.
تناهى إلى مسمعي موسيقى حلوة النغم، حسبتُ أنني في حلم، ثم سمعتُ شادياً يشدو مُصعداً الآهات. كان الصوت رخيماً وأكثر عذوبة من الموسيقى. غلبني الشوق ففارقتُ مضجعي ورحتُ أبحثُ عن مصدر الأصوات. خطوتُ بحذر متلمساً الجدران وأنا لا أرى طريقي بسبب العتمة. قادتني أذناي إلى باب مغلق، فتحته وأخذتُ أتحسسُ موضع زر الإضاءة حتى عثرتُ عليه وأشعلته.
كانت غرفة نوم فخمة، ولكن ليس فيها أثر لأحد. فتشتُ الأدراج وصوان الملابس فلم أجد ما يستحق الذكر. لمحتُ ظلاً فاقشعر بدني، وانتابني إحساس بوجود شخص ما.. انحنيتُ لأرى ما تحت سرير النوم، فعثرتُ على صبية ملفوفة بستارة باستثناء رجليها. طمأنتها أنني لست سارقاً ولكنني أتيتُ للنوم! سحبتها من تحت السرير وحررتها من الستارة، فإذا هي فتاة برأسين، إحداهما مليحة الوجه، والأخرى قبيحة.
على حين غرة انسكبتْ عبراتي وأخذتُ أنشج مثل طفل. ضمتني المليحة إلى صدرها مواسية وسألتني: «لماذا تبكي؟». فاعترفتُ لها وقد بحَّ صوتي من حر الزفرات: «لقد قتلتُ صديقي الوحيد». مسحتْ المليحة على رأسي: «لا، أنت لم تقتله، إلياس ليس له وجود سوى في خيالك فقط». قلت وأنا أنوح على نفسي: «لولا ذلك اللص الذي سرقني في الحافلة لكنت درستُ في الجامعة ولم يضع مستقبلي». دفعتني القبيحة عن حضنهما المشترك وكلمتني وهي ممتعضة: «لا تكذب، ذلك اللص لم يوجد قط، أنت خلقته داخل رأسك من العدم».
انخسف وجهي وتلون بلون الندم، قلتُ: «لقد كذبتُ على أمي وأبي وأوهمتهما أنني أدرس في الجامعة وأنال أعلى الدرجات وما يدريان أني خدعتهما».
قالت المليحة بوجه باشٍ متعاطف: «لا تلم نفسك على ماضٍ من اختراعك.. هل تعلم لكَ اسماً؟». أجبتُ مندهشاً: «لا، ولم أسمع أحداً يناديني به».
بادرتْ القبيحة بتبديد حيرتي ووجهها العابس يقطر بغضاً: «إذن كيف لم تعرف منذ البداية أنك لم توجد حقاً؟؟». ثم ضحكتْ بتشفٍ. وأما المليحة فسالت دموعها وبان الحزن على ملامحها.
لفَّت الفتاة نفسها بالستارة كالسابق، وتدحرجتْ نحو السرير الذي تحول إلى خشبة مسرح، واختبأت خلف الكواليس.
مضيتُ دائخاً بخطوات مترنحة صوب التسريحة، ونظرتُ في مرآتها، فلم أُبصر أحداً! حدقتُ طويلاً، ثم صدقتُ أخيراً أنني لم أوجد مطلقاً، وأن حياتي كانت مجرد مزحة.
تعليقات