وجدي الأهدل*
الشيء الوحيد الذي لازمني منذ بداياتي وحتى اليوم هو الشك في موهبتي الأدبية. كل يوم أفيق من النوم وأتساءل إن كنت موهوباً في كتابة الأدب.. إنه شكٌ مُعذب ومؤلم، مثل شك رجل دين في وجود خالق للكون.
صوت يصعد من جوفي ويُكاشفني بأمور فظيعة: لقد سلكتَ الطريق الخطأ، أنت لست كاتباً، أنت لم تخلق لهذا، ما شأنك بتأليف الكتب؟؟، وأفكر أن هذا الصوت على حق، إنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي، إنه صوت محايد وشجاع، إنه يحاول أن يوقظني، إنه يعلم ما هي مشكلتي تماماً، وحده هذا الصوت الذي يتجرأ ويخبرني أنني أعيش في كذبة من نسج خيالي، وأن تعلقي بالأدب ليس سوى حلم يقظة استمر أكثر مما ينبغي.
ملايين العلامات تنبئ أن ما أكتبه هراء لا قيمة له، ومع ذلك كان عليّ تجاهلها – رغم ضخامة عددها – والمضي قدماً وراء وهمي الخاص.
ربما خصلة العناد هي التي أبقتني في حقل الكتابة، وإنه لأمر مفزع ألا ينسحب الإنسان في الوقت المناسب، فيجدُ نفسه مجبراً على البقاء بداعي الشعور بالحرج لا غير!
يا لها من أزمة تلازمني كظلي: هل ما زلتُ أكتب حباً في الكتابة أم حفاظاً على كرامتي الشخصية؟ هكذا أبدو في نظر نفسي: شخصاً لا يمتلك الشجاعة الأدبية للاعتراف بأنه ليس أديباً.
شيء واحد فقط منحني الأمل: الحظ.. لقد جربتُ حظي في مهن عديدة فلم أنجح، ولكني لاحظتُ أن حظي يعمل حين أتجه إلى الورقة والقلم، وكنت أقول في نفسي حين تنشر قصصي “اللعنة إنهم لا يعلمون أن موهبتي الأدبية متواضعة أو لا وجود لها أصلاً”.
وهذا الحظ الذي أتحدث عنه لا يشبه حصول أحدهم على بطاقة يانصيب ربحت الجائزة الكبرى، ولكنه يشبه حظ الطالب الكسول الذي منتهى طموحه ألا يرسب فقط.
لم أمتلك أبداً ذاك اليقين بأنني عبقرية أدبية، وهو اليقين الذي يعين الأديب على تجاوز الكثير من العقبات وتحمل العثرات.
ما هو مؤكد أنني بنيتُ موهبتي الأدبية – المفترضة – من الصفر.. وكتابي الأول “زهرة العابر” الذي صدر في عام 1997 هو مثال ملموس على صدق أقوالي. فهذا الكتاب الذي لا ينتمي لجنس كتابي محدد وضعتُ فيه قصصاً قصيرة، وأقاصيص، وأمثالاً شعبية، ونصاً مسرحياً، وأيّ غُثَاءٍ مختلس من أعمالي غير المكتملة، وحين سألني الناشر “ما هذا؟”، أجبته بجهل فظيع “كوكتيل حكائي”! لاشك أن الناشر قال حينها في نفسه “لقد صادفتُ الكثير من الأدعياء، ولكن هذا يفوقهم جميعاً!”.
بعد شهر تقريباً استلمت ألف نسخة بالتمام والكمال، وإحدى الأفكار التي راودتني بشأنها حين رأيتها مكومة في الزاوية هي إعادة رصها لأتخذها سريراً أنام عليه! وربما لو أنني فعلتُ ذلك، ولم أخرج لتوزيعها، لوفرت على نفسي الكثير من العداوات المجانية، والكراهية التي توزع بالقِسْطاس في الوسط الثقافي، وأما النقاد فغالباً كانوا سيصفقون لي طويلاً ويشدون على يدي بحرارة، لأنني أنقذت البلاد من كارثة أدبية!
قمتُ بتقسيم الصفحة إلى قسمين: متن وهامش. في المتن ظهرت القصص القصيرة والنص المسرحي، وفي الهامش ظهرت الأقاصيص والأمثال الشعبية – بعضها كان بذيئاً ولكن حصافة الناشر حالت دون ظهورها – ونتف من أشباه روايات لا تصلح للاستهلاك الآدمي.
عموماً الشيء الوحيد الذي استحققتُ عليه الثناء هو هذا الإطار الشكلي، وبطريقة مؤدبة أفهموني أنني لا أصلح لمهنة الكتابة، وأن المهنة التي تناسبني تماماً هي مهنة مهندس ديكور!
مع الأسف لم أُقدِّر تلك النصيحة الثمينة حق قدرها، وربما لو أخذتها على محمل الجد لتغيّر وضعي المادي كلياً نحو الأفضل، وغالباً كنت سأعيش حياة رغيدة، وما كنت لأعاني من ضيق الحال ومكابدة دفع إيجارات المنزل والفواتير والغرق المزمن في الديون.
خصلة العناد – وهي آفة أعاذكم الله منها – دفعتني دفعاً إلى التشبث بمقعدي غير مبالٍ باللعنة الشهيرة التي تلازم مهنة الكتابة، الموجزة في هذه المقولة المحزنة “أدركته حرفة الأدب”.
عنونتُ كتابي الأول على اسم قصة قصيرة، ارتأيتُ أنها أفضل من سواها، ولهذه القصة قصة:
رأيتُ في المنام لصاً يتسلل ليلاً إلى منزل ظن أنه خالٍ من أهله، دخل من النافذة وبيده كشاف، وراح يبحثُ عن شيء يسد جوعه، شعرتُ بطريقة ما أنني أنا اللص، وكان السيد تشارلز ديكنز حاضراً بصوته فقط، يروي الأحداث التي تجري تحت ناظريه لحظة بلحظة، وكأنه يقرأ صفحة من أحد أعماله الأدبية الشهيرة، ثم دخل اللص حجرة فيها فتاة خرساء، خاف منها ولم تخف منه، وكأنها كانت بانتظاره، أعطته ما غلا ثمنه وخف وزنه، فكافأها بوردة، شيعته إلى الباب، وتابعته حتى غاب، ثم نامت عند عتبة باب البيت من خارج، وفي الصباح أفاقت من نومها مشوشة، بحثت عن الوردة فلم تجدها فعلمتْ أنها كانت تحلم، وأتى الجيران يتساءلون لِمَ اضطجعتْ في هذا الموضع، فحدثتهم بفصاحة عن حُلُمها.
الظريف أن قصة تشارلز ديكنز التي رأيتها في الحلم أفضل من القصة التي كتبتها! وكانت هذه من المناسبات النادرة التي لاحظتُ فيها أن أحلامي كفاءتها الرمزية أعلى من قصصي، وأن هذه الفجوة لها علاقة بـ”الأصالة” الإبداعية التي ينشدها الجميع.
الآن أنظر إلى كتاب “زهرة العابر” بوصفه أدباً شعبياً، مغرقاً في المحلية، وهو اتجاه سيطر عليّ في بداياتي، وهو نتاج صراع داخلي كنت أعيشه، بين الكتابة للنخبة، وبين الكتابة للعامة.
في سنوات الشباب تلك، كنت ميالاً للكتابة الشعبية التي تُرضي ذائقة العمال والحرفيين وأولئك الذين تلقوا قسطاً متواضعاً من التعليم، وهم السواد الأعظم من الشعب اليمني.
الشخص الوحيد الذي أسررتُ له بهذه المعضلة هو الناقد (عبدالكافي الرحبي) رحمه الله، الذي هو عضو في الحزب الاشتراكي اليمني وناقد أدبي متميز، ففكر ملياً قبل أن يُجيب، ثم نصحني بالبحث عن منطقة وسطى بين الأدب الرفيع المكتوب للنخبة المثقفة، والأدب الشعبي الساذج المكتوب لعموم الناس.
هي معادلة عسيرة أن تجمع بين الكتابة الجيدة والوصول إلى جميع شرائح المجتمع، ولكن (الرحبي) أنار لي طريقي، وأعطاني حلاً – ما زلتُ أعتقد بصحته حتى اليوم – أُوفق به بين الجودة والجمهور.
التقيتُ به في مركز الدراسات والبحوث اليمني؛ سعيتُ إليه بعد فراغه من قراءة “زهرة العابر” متشوقاً لسماع رأيه وتقييمه، وخضنا نقاشاً مثمراً، أعده الأهم في مسيرتي الأدبية، لأنني من بعدها قررتُ اتخاذ منطقة وسطى، فلم أشغل نفسي باللغة الشعرية المتعالية، وكذلك تحررتُ نهائياً من محاولاتي المستميتة لإرضاء الذائقة الشعبية.
من كتاب لآخر تخلصتُ تدريجياً من عيوبي، واكتسبتُ موهبة الكتابة بالتدريب، وأحرزتُ تقدماً لافتاً في رواية “بلاد بلا سماء” التي تُرجمت إلى الإنجليزية، ثم حققتْ حضوراً دولياً لم أتوقعه البتة. تلتها رواية “أرض المؤامرات السعيدة” التي بددتْ غيوم الشك حول موهبتي، وحازت على قبول النقاد.
لم أُولد وفي فمي ملعقة الموهبة، ولكن بالإصرار انتزعتُ الموهبة من فم الأيام، وامتلكتُ ناصية الكتابة على مضض منها حتى لانت وانقادت، وهي الأشد صلابة من الفولاذ.
لقد كنت شاباً يراقب من بعيد الهوة الهائلة بين الثقافة الرفيعة المستوى المحصورة على بضعة مئات من الأفراد، وبين الثقافة الشعبية التي تحرك الملايين من المواطنين. لقد أدركتُ منذ البداية أن هذا الخلل لن يمر مرور الكرام، وستكون له عواقب كارثية، وأن ثقافة الأغلبية هي التي ستنتصر في النهاية..
ما زالت هذه المعضلة تؤرقني ولم أتخلص منها بعد: كيف يمكن للأدب أن يكسر حاجز عزلته في الدوائر الثقافية العليا ويحقق انتشاراً شاملاً حتى يصبح متاعاً لابد منه في كل بيت؟ كيف يمكن أن نجعل ربات البيوت يحرصن على اقتناء كتب الأدب كحرصهن على اقتناء أكواب الشاي الأنيقة؟ لأنني ما زلت أؤمن أن الأدب كالقطط والكلاب الأليفة، يُضفي على البيت جواً من الألفة.
*روائي وكاتب يمني
تعليقات