وجدي الأهدل*
ولد فرنسيس سكوت فيتزجيرالد في ولاية مينيسوتا عام 1896، وعاش هذا الروائي الفذ 44 عامًا لا غير، إذ توفي في عام 1940 بنوبة قلبية.
خلال هذا العمر القصير، ألَّف فيتزجيرالد أربع روايات، ورواية خامسة غير مكتملة نشرت بعد وفاته، وباقة من القصص القصيرة.
ورغم أن سلته من الإنتاج الأدبي تبدو خفيفة، فإنه قد نجح في ترسيخ اسمه كواحد من أعظم الروائيين الأمريكيين في القرن العشرين.
نال فيتزجيرالد بطاقة الخلود الأدبي بسبب روايته الذائعة الصيت “غاتسبي العظيم”* التي صدرت عام 1925، وفيها تمكن من الإمساك بإيقاع حياة الأمريكيين عقب الحرب العالمية الأولى، وصوّر من زاوية نظر عميقة النزعات التي سيطرت على الجيل الأمريكي الشاب في تلك الفترة التي كان شاهدًا عليها وجزءًا منها، وهو الجيل الذي اصطلح على تسميته بـ”الجيل الضائع”.
أين تكمن عبقرية فيتزجيرالد؟لم يكن هذا المؤلف الذي قضى نحبه مبكرًا مبتكرًا لتقنية فنية مثل وليم فوكنر، ولا مُجددًا للأدب مثل إرنست همنغواي، ولكن تميزه يكمن في سمة واحدة: الإحساس بالمناخ الاجتماعي العام وتقطيره في صفحات محدودة.
في النشرات الإخبارية يتم اختتامها بفقرة (نشرة الأحوال الجوية)، حيث يتولى مذيع أو مذيعة إخبارنا بمعلومات عن الرياح ودرجات الحرارة والرطوبة والضغط الجوي.. إلخ، وفي عالم الأدب هناك أدباء ينتمون إلى هذا النوع من المذيعين، وإلى هذا النوع من الأداء الكتابي، وفيتزجيرالد بالنسبة للأدب الأمريكي هو الروائي الذي يأتي في النهاية ليخبرنا عن أحوال البشر الاجتماعية، وإلى أين تتجه أفكارهم، ويقيس درجة حرارتهم أو برودتهم، وأين ستهب العواصف.. في الظاهر يبدو لنا أن كتابة رواية عن (المناخ الاجتماعي السائد في عصر ما) مسألة سهلة، مثل سهولة تقديم نشرة أحوال الطقس، ولكن هذه السهولة خادعة، ونادرًا ما يتمكن روائي في أيّ بلد في العالم من تقديم المناخ العام للمجتمع موجزًا بين دفتيّ رواية.
تبدأ رواية “غاتسبي العظيم” بتذكر بطل الرواية (نيك كاراواي) نصيحة والده:
“كلما شعرت برغبة في انتقاد أحد تذكر أن الناس في هذا العالم كلهم لا يتمتعون بالمزايا التي لديك”ص9.
وهذه النصيحة تحوي بداخلها إيمانًا أعمى بالأفضلية الأخلاقية المطلقة على الآخرين.. وهذا بالضبط ما كان يشكل حجر الزاوية في عقيدة المواطن الأمريكي من العرق الأبيض، أيّ أنه متفوق أخلاقيًّا على جميع الأعراق والأجناس دون استثناء.
النصيحة تحمل نَفَسًا عنصريًّا، ولكن القالب الذي صيغت به لا يوحي بذلك.. وهكذا تبدو النصيحة ذات طابع نبيل ويدعو للترفع عن الصغائر، ويبتلع الشبان هذه الحكمة ويؤمنون بها دون أن يدركوا خطورتها على ضمائرهم.
تدور الرواية حول عائلة آل بيوكانن المكونة من زوجين ثريين هما توم وديزي اللذان يعيشان في نيوريورك، ورغم أنهما ارتبطا عن حب، إلا أن النار تخفت جذوتها بمرور السنوات، وينجرف توم في علاقة ساخنة مع امرأة من طبقة فقيرة (مرتل)، فيعيش حياة مزدوجة.. يدعوان بطل الرواية (السيد كاراواي) الذي يمت بصلة قرابة بعيدة لديزي للعشاء في منزلهما، وهناك يضعانه دون قصد في حالة توتر بسبب النبأ غير المعلن عن فساد زواجهما وتفسخه.. يتظاهران في وجوده أن كل شيء على ما يرام، ولكن رغم ذلك يفهم أن ثمة مصيبة قد وقعت.. تتلاحق الأحداث ويظهر شاب غامض اسمه (جيمي غاتسبي) يتبين فيما بعد أنه الحبيب الأول لديزي، الذي تركها مضطرًّا ليقاتل في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى، وعندما عاد وجدها قد تزوجت من الشاب الثري توم.
(غاتسبي) هو نموذج للشاب الأمريكي في عشرينيات القرن الماضي الذي عاد من الحرب العالمية الأولى منتصرًا ولكن بلا هدف.. فيخلق في دماغه وهمًا يظل يطارده ويسعى إلى نيله بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
الشاب (توم) يمثل طبقة الأغنياء في أمريكا، وهي بمعظمها من العرق الأبيض، طبقة لا تفقه شيئًا سوى حفنة من الأفكار العنصرية النمطية والنظرة المسطحة للحياة، يقول توم مخاطبًا ضيفه على العشاء:
“إن الحضارة تنهار.. لقد أصبحت متشائمًا بشكل رهيب من كل شيء. هل قرأت نشوء الإمبراطوريات الملونة الذي ألفه رجل يدعى غدارد؟.. حسن، إنه كتاب جيد، وعلى الجميع أن يقرؤوه. وفكرته هي أننا إذا لم نأخذ حذرنا فإن العرق الأبيض سوف يندثر تمامًا. الأمر محسوب علميًّا، مبرهن عليه”ص21.
وترددت أصداء هذا الهراء الذي آمن به شباب جيل عشرينيات القرن العشرين الأمريكي في مواضع عديدة من الرواية، فيما يشبه موجة عالمية تكللت باستلام الحزب النازي السلطة في ألمانيا عام 1933، ونعرف جميعًا ما الذي انتهت إليه تلك الأيديولوجيا الآرية المتطرفة.
جميع أبطال الرواية شبان تتراوح أعمارهم ما بين الثلاثين والأربعين، ولدوا في الغرب الأوسط الأمريكي، وهم ليسوا أبطالًا سلبيين، ولكنهم ولدوا هكذا، أخطاؤهم هي أخطاء عرقهم الذي يؤمن بالنقاء العرقي، والشخصية السلبية الوحيدة حقًّا في الرواية هي شخصية اليهودي (وولفشيم) الذي استدرج الشاب المفلس (جيمي غاتسبي) ليعمل معه في أعمال غير مشروعة ويتخفى خلفه، وبالتالي جعله ثريًّا ولكن ليس عبر العمل الشريف.. وعلينا أن ننتبه أن الرواية صدرت في عام 1925، أي قبل أن يتمكن العرق اليهودي من إحكام قبضته على السياسة والاقتصاد في الولايات المتحدة.. وهكذا تنبأ هذا الرائي بما سيحدث لبلاده في المستقبل، فهو كمذيع نشرة الأحوال الجوية الذي يحذر من عاصفة آتية.
تحتاج شخصيات الرواية إلى تحليل أكثر عمقًا من الذي بسطناه هنا على عجالة، ولكن المؤكد أن رواية “غاتسبي العظيم” قابلة لتأويلات عديدة تكاد تكون لا نهائية، وهكذا هي عادة الأعمال الإبداعية العظيمة.
——————–
*غاتسبي العظيم: ف. سكوت فيتزجيرالد، ترجمة أسامة منزلجي، دار المدى، بغداد، الطبعة الأولى، 2014.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات