وجدي الأهدل*
هل عجزتْ الأمة اليمنية أن تنجب رجلاً بمستوى العالم الهندي أبوبكر زين العابدين عبدالكلام، تسلّمه مقاليد أمورها، فيرفعها إلى المكانة اللائقة بها بين أمم وشعوب العالم؟
أرض اليمن ولّادة، ويقينًا قد وُلد على ترابها من هو مساوٍ لذلك العالم الهندي في كفاءته وذكائه، أو حتى من هو أفضل منه، ولكن غياب المؤسسات المفترض فيها استيعابهم ومنحهم الموارد اللازمة لتطوير مشاريعهم، قد حال دون ذيوع ذكرهم، ومن ثَم ارتقائهم إلى المراتب الإدارية العليا لقيادة دفة الدولة.
لكن من يكون زين العابدين عبدالكلام، هذا الذي نتحسر أن اليمن لم تنجب مثله؟ إنه الرجل المسؤول عن تحويل الهند من دولة لا حول لها ولا قوة إلى دولة عظمى.
عبدالكلام المولود عام في 1931 هو عالم ومهندس صواريخ، لعب دورًا محوريًّا في تطوير برنامجيّ الهند الصاروخي والنووي.
والمفاجأة أنه كاتب وشاعر، أصدر العديد من الكتب التي ساهمت في خلق وعي جديد، وتولى رئاسة الهند بين عاميّ 2002 – 2007، وتوفي عام 2015.
كانوا يلقبونه بـ”رجل الصواريخ”، وإليه يعود الفضل في تطوير برنامج الهند الفضائي الذي يُحقق الآن نجاحات مذهلة، مثل إرسال مركبة الفضاء مانغاليان إلى مدار كوكب المريخ، التي أرسلت صورًا عالية الدقة للكوكب عام 2014، وهي الدولة الوحيدة التي نجحت في فعل ذلك من أول محاولة، وبكلفة هي الأرخص مقارنة بأمريكا وروسيا والصين.
ما قدمه عبدالكلام من خدمات جليلة لبلده الهند يصعب حصره في هذه العجالة، والشاهد أن الرجل غيّر مسار التاريخ الهندي، وقام بأعمال عظيمة عززتْ الروح المعنوية لأكثر من مليار نسمة، وجعلتهم يشعرون بالفخر والاعتزاز بوطنهم.
فاز عبدالكلام (المسلم) في الانتخابات الرئاسية بفارق كبير عن منافسه، ثم رفض أن يترشح لفترة رئاسة ثانية، وخرج من القصر الرئاسي وقد حمل لقب “رئيس الشعب” لشدة شعبيته.
لقد أتى عبدالكلام من أصول متواضعة، وكان والده إمام جامع في بلدة رامسيوارام، ولم يكن هناك أيّ شيء خاص في نشأته مختلف عن البيئة اليمنية، فلماذا نجح عبدالكلام في شق طريقه حتى صار عالمًا فذًّا ومعلمًا روحيًّا ملهمًا، بينما لم ينجح أيّ يمني في تحقيق إنجاز مماثل؟
هناك مبدأ آمن به عبدالكلام وطبّقه على نفسه أولاً، ثم دعا الشباب في الهند والعالم إلى الأخذ به:
“ينبغي إحلال الروحية القائمة على مبدأ (ما الذي يمكنني منحه) محل الروحية القائمة على (ما الذي يمكنني اقتناصه)، تلك هي الطريقة المثلى لاستئصال الجشع الذي يقود إلى مشاكل خطيرة مثل: الفساد، التدهور البيئي المستديم، والسلوكيات الأخلاقية الشائنة”.
هل لدينا الآن أيّ سياسي يمني يؤمن بهذا المبدأ؟ الأكثرية تؤمن بالنقيض، فهم من أصحاب مبدأ (ما الذي يمكنني اقتناصه)، وهو السلوك الانتهازي الذي حذر منه عبدالكلام، فوصلنا بالضبط إلى الدرك الأسفل من الفساد والتدهور والسلوكيات الأخلاقية الشائنة.
كان عبدالكلام علمانيًّا، ولكنه من ناحية أخرى فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، فهو قد تشرَّب المحبة والعطاء والبذل والتضحية من أجل الآخرين من أسرته، ومن أقاربه، ومن مجتمعه القروي البسيط المتعدد الأديان، وقد تحدث عن ذلك بالتفصيل في مذكراته (رحلتي: تحويل الأحلام إلى أفعال)، ولولاهم لما كان باستطاعته أن يشق طريقه في الحياة، ويغدو نجمًا ساطعًا في سماء العالم، أولئك الذين منحوه الدعم اللا محدود ليتعلم ويتكشّف نبوغه.. ولقد رد الجميل لهؤلاء الذين ساعدوه عن طريق تكريس حياته في سبيل رقي ونهضة بلده الأم.
حب الشعب الهندي الجارف له لم يأتِ من فراغ، ولكن لأنه منح نفسه كليًّا لمصلحة بلده، فكان بمثابة الأب الذي يمنح دون انتظار مقابل.
إن سيرة السياسيين اليمنيين لَتوجع القلب، حين نقارنهم بهذا الرجل النبيل، فالسياسي اليمني لا يمنح شعبه أيّ مكسب مادي أو معنوي، ولكنه يأخذ مقابل منصبه السياسي أموالاً وامتيازات مهولة.
السياسي اليمني قصير النظر، يهتم بتلبية احتياجاته الشخصية أولاً، ثم بعد ذلك يهتم بتلبية احتياجات وطنه.
السياسي الجيد سواءً أكان هنديًّا أو أوروبيًّا أو من أيّ جنسية أخرى، سوف يمتلك بُعد النظر، بحيث يعطي الأولوية لوطنه، ويضع مصالحه الشخصية خلف ظهره.
السياسي اليمني متفوق في “التكتيك”، وربما سيغلب سائر السياسيين في العالم بحيله، ولكنه غبي للغاية في “الاستراتيجية”! إنه لا يملك فكرًا استراتيجيًّا، لذلك يمتلئ التاريخ اليمني بنجاحات مؤقتة زائلة، ثم يسود تاريخ طويل من الفشل الذريع.
ينبني الفكر التكتيكي على مبدأ “اقتناص الفرص”، بينما ينبني الفكر الاستراتيجي على مبدأ “منح الفرص للآخرين”.
العقل اليمني لا يستسيغ أن يُضحي بفرصة تلوح له من أجل شخص آخر.. هذه بالنسبة له تعد حماقة مثيرة للسخرية.. ونتيجة لهذه النمط من التفكير نجد اليمنيين يتصارعون ليل نهار، وكلهم يريدون أن يصبحوا قادة، مسؤولين، وزراء، سفراء، مديرين، رؤساء.. إلخ.
هذه العقلية السائدة في أوساط اليمنيين هي التي جلبت الدمار على الوطن وجعلته تحت الأقدام.
مثل أيّ سياسي جيد، امتلك عبدالكلام فكرًا استراتيجيًّا، فالهند حققتْ في عهده أعلى درجات النمو الاقتصادي، وعند وفاته لم يُورِّث سوى مكتبة عامرة بالكتب وآلة موسيقية، ومتعلقات شخصية متواضعة، أوصى بها لأخيه، ولا شيء آخر.
القيمة الحقيقية لزين العابدين عبدالكلام ليست في توليه رئاسة الهند، ولكن في كونه معلمًا روحيًّا عظيمًا، فهو قد ألهم ملايين الشباب حول العالم، وحثهم على طلب العلم والكفاح من أجل تحقيق أحلامهم، وكان يقول لهم دائمًا في محاضراته: “الأحلام ليست ما نراه في منامنا، بل هي بالضبط ما ينبغي أن يجعلنا لا ننام أبدًا”.
يقول عن نفسه: “العمل الدؤوب والتقوى، الانكباب على الدراسة والتعلم، الشفقة والمغفرة هذه كانت دومًا أحجار الزاوية في حياتي”.
تحدث عن علاقته الوطيدة بالقراءة، وأن الكتب هي التي شكلت شخصيته الفريدة من نوعها.. كتاب حكم ومأثورات تاميلية عنوانه “كورال” كتبه ثيرو فاليوفار قبل ألفي سنة، أمده بالكثير من الحكمة، ومنها هذه الفقرة التي اتخذها منهاجًا لحياته:
“فكر بالارتقاء إلى أعلى ولتكن هذه هي الفكرة الوحيدة التي تملأ حياتك، وحتى لو لم تحقق ما فكرت فيه فإن الفكر وحده كفيل بالارتقاء بك”.
تلقّى عبدالكلام أكثر من أربعين شهادة دكتوراه فخرية، واعتبرت الأمم المتحدة يوم ميلاده التاسع والسبعين يومًا عالميًّا للطلاب.
وفي عام 2005 أعلنت سويسرا أن يوم 29 مايو من كل عام هو يوم العِلْم، وذلك بمناسبة زيارة عبدالكلام لهذه الدولة.
لم يلهث عبدالكلام وراء المكاسب المادية السريعة، فنال تقدير العالم كله، ومات محبوبًا من شعبه. فهل نأمل أن تحظى اليمن بقادة من هذا الطراز الرفيع؟ فلنتأمل.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات