Accessibility links

رجل تطارده الحرب وغراب أسود – قصة قصيرة


إعلان
إعلان

عاد من الحرب، لكنه لم يعد قادرًا على النوم، أصبح يسمع أصوات الرصاص والمدافع والشتائم المتبادلة في رأسه كل يوم.

استيقظ في أحد الصباحات، قام ببناء مترس في حوش منزله، ثم قام بحفر قبر، وفي اليوم الآخر قبر آخر، وفي اليوم الذي يليه قبر آخر، كان كل يوم يبني قبرًا لصديق في ذاكرته، من أصدقاء أيام الحرب، كان أيضًا يبني قبورًا للأعداء الذين عرفهم في تلك الحرب!!

كان يدفنهم في تلك القبور كما كان يدفنهم في ذاكرته التي هشمتها الحرب، والأصوات المرتفعة، في كل مكان، تلك الأصوات التي ما زالت تطارده حتى بعد أن توقف عن الحرب وغادرها.

أما المترس الذي حفره في الحوش فكان ينام بداخله، يجعله يشعر بالأمان من فكرة الحرب تلك، تصبح الأصوات التي يسمعها في ذهنه أقل حدة ووحشة، كان يتخيل الرصاص يُخطئه بسبب ذلك المترس الذي بناه في حوشه. هكذا نقل بعض ملامح الحرب إلى بيته.

كان كل صباح يتناول القهوة المرة مع صديق قُتل في الحرب، ويلعب الشطرنج مع أحد الأعداء الذين عرفهم هناك، أو الذين يتخيلهم أو تختلقهم مخيلته، كان العدو الذي يُهزم في لعبة الشطرنج تلك يعود لقبره الذي بناه له في حوشه، أما الذي يفوز كان يغادر الحوش من بابه المفتوح وهو يرقص، ويبكي، ويقول، سأعود أخيرًا لعائلتي، سأعود أخيرًا لطفلتي، سأعود أخيرًا لعائلتي!

كما كان البعض يخرج بصمت كشبح، وكأنه كان يعرف أنه لم يعد حيًا، حتى وإن فاز في لعبة الشطرنج تلك، وغادر قبره ذاك.

كانت الحياة البائسة والغريبة تعج في منزل ذلك الرجل الذي غادر الحرب ولكنها لم تغادره أبدا.

أحد الأصدقاء الذين عرفهم جاءه ذات صباح، شرب معه القهوة المرة، ثم طلب منه وتوسله أن ينزع عنه تلك الرصاصة التي في ظهره، كان يخبره أنها ما تزال تؤلمه كشوكة كبيرة هناك، رغم علمه أنه مات، رغم موته، ما تزال تزعجه تلك الرصاصة اللعينة! كان صديقه يشعر بالحزن، لأنه في كل مرة لا يستطيع نزع تلك الرصاصة، وكان في كل مرة يعود الرجل ذو الرصاصة لقبره وهو يشعر بالأسف والوجع.

في أحد الصباحات أيضًا جاءه أحد الأعداء، قال له: لا أريد أن العب الشطرنج معك اليوم، فقط أخبرني لماذا كانت الحرب؟! الحرب التي قتلنا فيها؟! ألسنا كلنا بشرًا نمتلك نفس الملامح والأحلام والأبناء، الخوف نفسه من الموت، الوجع نفسه، الألقاب نفسها المضحكة؟! الحماقات نفسها، النكات نفسها التي نتبادلها، الأصابع والأقدام نفسها؟! لماذا كان علينا أن نحارب بعضنا؟! لماذا كان عليّ أن أموت أنا وأحبس هنا في حوش منزلك اللعين هذا؟!

لم يعرف الرجل الهارب من الحرب بماذا يجيبه، فقد كانت مثل هذه التساؤلات تراوده منذ أن غادر تلك الحرب التي أرهقته، وجعلته لا يحتمل رفع رأسه الذي صار ثقيلًا، تلك الحرب التي ما تزال تتردد رائحتها أيضًا في أنفه، وفي كل حواسه.

عاد ذلك العدو، وهو يعرج إلى قبره، وهو يردد تلك التساؤلات بصوت حانق ومرتفع، وهو يردد أيضًا: لن ألعب الشطرنج معك أبدا.

كان هنالك غراب أسود، يقف دائمًا على سور ذلك الحوش، يراقب كل ما يحدث في منزل ذلك الرجل، وهو يُقلب رأسه بهدوء، ثم يطير مبتعدًا إلى السماء، وهو ينعق بصوت مزعج وحزين.

وحين يُصبح الغراب بعيدًا في السماء يلتفت نحو الأسفل، نحو ذلك المنزل وحوشه ذو القبور والمتارس، فيظهر في عينيه ذلك البيت وحيدًا خاليًا لا بيوت حوله، ولا شجر، ولا بشر، فقط بيت ومنزل وحيد في صحراء لا متناهية، بيت ومنزل وحيد هنالك، يسكنه الموتى، وذلك الرجل الهارب من الحرب، أو ذلك الرجل الذي يظن أنه قد هرب فعلًا من الحرب. ذلك الرجل الذي مات في الحرب دون أن يعلم، دون أن يشعر، مات وأصبح ذلك البيت الممتلئ بالقبور والمتارس قبره دون أن يعلم، وحده الغراب الأسود كان يعلم، وحده الغراب الأسود كان يعلم ذلك!!

*طلال قاسم – الفائز بالمركز الثاني لجائز الربادي للقصة القصيرة (الدورة الثالثة)

   
 
إعلان

تعليقات