تناول الكاتب لويس «إي.روميرو» تجربة (هنري فورد)، المؤسس الشخصي لشركة سيارات «فورد الأميركية»، المعروف على نطاق واسع، ليس فقط بسبب إنجازاته، بل -أيضًا- بسبب طريقته في التفكير وأسلوبه في القيادة.. وقد سلّط (روميرو) الضوء، من وجهة نظره، على بعض الدروس التي يمكن استلهامها من مشروعه، والتي يمكن القول إنها أسهمت في صناعة اسطورة نجاحه وعظمة تجربته، وحرصاً منه للاستلهام والاستفادة والتعلم من هذه التجربة الرائدة.
ديربورن – «اليمني الأميركي» – متابعات:
وأشار إلى أن تراث تجربته مفعم بالاقتباسات والذكريات الرائعة التي تدل مجتمعه على فلسفة مكينة في العمل الحر.
وقال: إن باستطاعتي ذكر بعض الأمور التي يمكن الرجوع إليها لاستلهام الخبرة منها ما دمت أجول في جنبات مشروعه الحر ليل نهار. آخذين هذه المسألة بالحسبان، فلنلق نظرة فقط على خمسة من دروس مشروع (هنري فورد) الحر هذا.
وسرد (روميرو) خمس نقاط على النحو التالي، وذلك حسب مقال نشرته مجلة «فوربس»:
1. فلتكن ماهرًا جدًّا فيما تفعله لدرجة يعتقد معها الناس أنك مبتكر ذلك الفعل.
غالبا ما حظي “هنري فورد” باعتقاد الناس أنه هو مبتكر السيارات.. وهذا لم يكن صحيحًا إلى حدّ بعيد، غير أن “فورد” كان – حقًّا – شديد الحماس بشأن صناعة السيارات، وكان له دور فعّال جدًّا في ثقافة انتشار السيارات في أميركا، وفي العالم أجمع، إلى الحد الذي كرّس قناعة الناس بكونه مبتكر السيارات.
إنني لا أرى هنا أن لأي أحد الحق في سرقة المصداقية من الآخرين، فهذا أمر غير أخلاقي.. لكن ما أراه هو أن عليك أن تنغمس في عملك بكامل مشاعرك وحماسك وذكائك إلى درجة أن العمل الذي تؤديه يصير جزءًا لا يتجزأ من سوق الخدمة التي تقدمها.. كما أن ثقافة “البوب” تعطي – أحيانًا – “ال قور” الأحقية في ابتكار الانترنت، (مع أنه سمح فقط بتطويرها من الناحية القانونية).. وصانع الفيلم المتوج “ستانلي كوبريك” يوصف بأنه مبتكر صور الكمبيوتر المتحركة بسبب التأثير الخاص لعمله في العام 2002 “أوديسة الفضاء”، (مع أنه لم يستخدم في الحقيقة أي كمبيوترات في ذلك الفيلم، بل إن ما فعله هو أنه مهّد الأرضية للمؤثرات التي صارت لاحقًا مبرمجة حاسوبيًّا).. إن الناس على استعداد لأنْ يعدّوك ويعرفوك كرائد في مجال عملك إنْ أنت انغمست فيه بحضورك الفعّال وبكل طاقتك..
وهذا لا علاقة له بتلميع صورتك، بل هو عن ضرورة إطلاق أعلى ما تتمتع به من حقيقة سامية.. افعل ما تحبه، افعل ما يشعل أعظم الحماس لديك ويثير أسمى مشاعرك.. وحين تفعل هذا، فستجد أن حبك يصير معديًا، وتجد أنك كلما أنجزت أفضل في ما تفعله ، تزايد – أيضًا – عدد محبي ما تفعله أكثر فأكثر، وستصير – بلا ريب – أهم من الشخص الذي يحمّص الكيكة.. لسوف تصير أنت في المقام الأول صانع الكيكة نفسه.
الإخفاق
2. الإخفاقات فرص:
“فورد” أخفق مرات كثيرة قبل أن ينجح في نهاية المطاف، ومسارًا كهذا هو سائد شائع بشكل لا يُصدَّق بين أصحاب الأعمال الحرة.. إن الناس يميلون إلى التقليل من شأن إخفاقاتهم، غير أن الحقيقة هي أن ما من أحد محصن ضد الإخفاق، وهذا أمر جيد ما دامت الإخفاقات ليست سوى فرص يزدريها الناس بوصفها أحداثًا سلبية.
وكما قال “فورد” ذات مرة: “الإخفاق هو، بكل بساطة، فرصة لأن تبدأ من جديد، بطريقة أكثر ذكاءً”..
بكلمات أخرى، إن علينا أن نعتبر إخفاقاتنا هي معلمتنا.
من الطبيعي أن لا أحد يحب تجربة الفشل؛ كونها تجربة مزعجة ومحبطة لتفاؤلنا ولوتيرة عملنا عندما نجد أن ما خططنا له لم يتحقق كما توقعنا.. ومع ذلك، فليس بوسعنا إلا أن نستفيد من تغيير طريقتنا السلبية في النظر إلى الإخفاق.
عندما يحدث الإخفاق، حاول ألا تركز على الشعور بالخيبة، بل على العكس من ذلك، ركز على المكسب المعرفي الذي نلته من إخفاقك.. إن في كل إخفاق معرفة قيّمة: أين أخطأنا، يا ترى؟، وكيف علينا أن نتعامل مع الأشياء بطريقة مختلفة هذه المرة؟!..
الإخفاقات هي بكل بساطة شكل من أشكال ردود الفعل التي نتلقاها في مسار خبرة الحياة… فهي تُعلّمنا عن الأمور التي لم تسِر على النحو الذي توقعناه.. فإن نحن لم نصغِ جيدًا، وأخذنا في تكرار أنفسنا، فإننا حينئذ معرضون للإخفاق… أما لو أننا هيّأنا أنفسنا بشكل سليم، وغرسنا في أنفسنا عادة مراجعة مساراتنا حين يحدث الفشل، فإننا نكون أمام فرصة حقيقية للنجاح في نهاية المطاف.
القوة
3.كنْ قويًّا وأنت خلف المشهد كما أنت قويّ وأنت في أي مكان.
آخر شيء لا يود صاحب العمل أن يفعله هو أن لا يقع في مصيدة التظاهر بمظهر الإنسان المثير لإعجاب الآخرين في حين أنه لا يتمتع بأي دور حقيقي، وهو خلف الأبواب المغلقة… إننا –جميعًا – نصادف أمثال هؤلاء، ونصفهم بأنهم مجرد ثرثارين “يحسنون الرطانة” فحسب، ومن ثم فنحن لا نكترث لهم بعد ذلك، ولا نأخذ ما يقولونه بالجدية التامة.
إن أمثال هؤلاء الناس لا يكون أمامهم أيّة فرصة لأن يُنتجوا شيئًا ذا قيمة، أو أن يُقدّموا أيّة خدمة، ناهيك عن أن يرتقوا أيّة مرتبة من مراتب العمل الحر.. وكما يقول “هنري فورد”: (الجودة تعني فعل الصواب في الخفاء من دون أن يراك أحد)..
بكلمات أخرى، لا تكن حاضرًا لإثارة إعجاب الآخرين.. انهمك في فعل ما تفعله، واهتم بكل التفاصيل، واحذر من أن تصدر أي أحكام، واهتم بكل شيء تفعله مهما بدا صغيرًا تافها؛ لأن الناس سيشعرون به حتى لو لم يروه.
فالأمر في الأخير – وفقًا لحكمة “هنري فورد” – ليس مهمًّا ما يظنه الناس، ما يهم – فعلاً – هو جودة الخدمة التي تقدّمها لهم.
التباهي
4.لا تكن متباهيًا.
هناك حكاية رائعة عن “هنري فورد” تتعلق باختياره لملابسه.
لقد اشتهر “فورد” بتواضعه الشديد وببساطة مظهره وارتدائه ملابس بسيطة وغير رسمية.. وفي أحد الأيام، سألته سكرتيرته: لماذا لا يرتدي المزيد من الملابس.. فما كان من “فورد” إلا أنه سخِر من ذلك السؤال، وشرح لها أن كل إنسان يعرف سلفًا أنه “هنري فورد”، ولذا فهو ليس بحاجة إلى مزيد من التأكيد على تلك الحقيقة.
وفيما بعد، وهو في جولة حول العالم، وجد “فورد” نفسه في أراضٍ أجنبية حيث ما من أحد يستطيع أن يعرفه من مظهره.. ولذا اقترحت عليه سكرتيرة ثانية بخصوص ملابسه البسيطة.. فماذا كان جوابه؟، قال إنه غير مبالٍ في أن يظهر بمظهر أفضل أمام أناس لا يدرون – حتى – أنه “هنري فورد”.
بمعنى آخر، إنه لم يكن مستعدًا أبدًا لأن يتظاهر على أي أحد كان يعرف أنه “هنري فورد”، أو لا يعرف.. فالناس إنْ كانوا يعرفونه سلفًا، فهو ليس بحاجة لأنْ يُضفي أيّة دعاية للمعادلة.. وإن كانوا لا يعرفونه، فهو لا يأبه في تسليط الضوء على أيّة بقعة فيه.. كان ببساطة متناهية حريصًا على أن يظهر كما هو عليه حقًّا، دونما زيادة من أي صنف.
نعم، لقد كان (فورد) في ذلك الحين -بطبيعة الحال- أحد المشاهير الأثرياء الذي لم يشعر بأدنى ضغط ابدا لتحقيق أي نجاح يريده. البعض قد يعتبرون عدم اكتراثه بمظهره الشخصي بوصفه لامركزية ناجمة عن استحقاقه لمكانته المتميزة في العالم أجمع. ومع ذلك، فإن الاتهامات الخفية وراء اختياره لملابسه هي نصيحة مدهشة لكل صاحب مشروع حر. إن هذا يتماشى مع، “ افعل الصواب في الخفاء من دون أن يراك أحد.”. لا تكن إعلانا متنقلا لنفسك في حين أنك لا تفعل شيئاً، وليس لديك سوى النزر اليسير لتقدمه للناس. كن حاضرا في خدمة عملائك وموكليك لأنهم الناس الذين يجب أن تكترث لهم، وهم الذين يدفعون لك.
الأموال
5.لا تكن مهتمًا – فقط – بجنْيِ الأموال.
(إن العمل الذي لا يفعل شيئًا سوى جنْيِ الأموال هو عمل بائس).. هكذا يقول “هنري فورد”.
لا تُحصى هي الأعمال التي غايتها – أولاً وأخيرًا – جنْيِ الأموال.. إنها تفترس الناس في أمسّ احتياجاتهم، أو – وهذا أسوأ – تفترسهم في حقوقهم. وأولئك الذين يديرون مثل هذه الأعمال قد يتمتعون بالمزيد من الرفاه والترف، غير أنهم سيحيون دائمًا في العار.. إنهم قد لا يكترثون، المسألة هي: هل تكترث أنت؟
إن من الأفضل، إلى أبعد حدّ، أن تكون إنسانًا تُقدّم فضيلة إنسانية حقيقية. النقود مرتبطة بالفضيلة، وتعود بها أيضًا.. يبدو أنّ ثمّة أسطورة ما، ألا وهي: أن النقود حماية للجشعين، والذين لا أخلاق لهم…غير أنها تظهر العكس تمامًا المرة بعد المرة…ما أكثر أولئك الناس من ذوي الأعمال الحرة الذين حققوا نجاحات مادية هائلة؛ لأنهم يلعبون دورًا محوريًّا في حياة الناس…والحالة على هذا النحو؛ فإن النقود ليست هي موضوع اللعبة؛ إنها فقط مجرد تصور طبيعي لكل صفقة.
إن الناس لا يتذكرون “هنري فورد” بوصفه إنسانًا كوّن ثروات هائلة.. بل إنهم يتذكرونه، أولاً وأخيرًا، كشخص ابتكر نهجًا خالدًا يُحتذى، وصنع وباع سيارات رائعة في ذلك النهج الذي ابتدعه.
ملاحظة أخيرة:
لعل من المهم أن نُشير هنا إلى أن أسطورة “هنري فورد” قد تلطخت بوجهة نظره المعادية للسامية التي روّج لها كثيرًا من خلال “استقلال ديربورن”، وهي صحيفة “ديترويت” الأسبوعية التي اشتراها في العام 1918.. إن حماس خطابه الشديد ضد “الساميّة” قد حظي بقدر لا يُستهان به من الاهتمام لدرجة أن “ادولف هتلر” قد ذكر “فورد” كملهم لمراسل “أخبار ديترويت” في العام1931.. وتلك حكاية شديدة السواد في حياة “هنري فورد” تسببت له في الكثير من المتاعب في الولايات المتحدة.. فبعد أن وُوجه من منظمات يهودية مختلفة في أميركا، بما في ذلك رفع قضية قانونية ضده واعلان مقاطعته، اضطر “هنري فورد” للاعتذار عن تصريحاته ضد السامية، وأنكر وجهة نظره تلك في رسالة للرأي العام.. ومن الملفت للنظر، هو أن كل هذا حدث قبل أن تنشب الحرب العالمية الثانية.
وقد كتب “روبرت ليسي” عن “فورد” ما يلي:
الرجال والآلات التي اشتبكت في “فورد” ذكرت أنه حين عُرض عليه مشهد من معسكرات الاعتقال النازية، “فإنه وُوجه بالبشاعات التي فضحت أخيرًا – بشكل مفحم – الممارسات البهيمية للتعصب الذي أسهم فيه، فانهار مصعوقًا”..
وعلى الرغم من سوء تصورات “فورد” الأساسية وتعصبّه الديني الذي اعتذر عنها – لاحقًا – بكل وسيلة ممكنة، فإن أسطورته وتراثه، كصاحب مشروع حر عظيم، لم تتزعزع.. إن مسعى “فورد” الحثيث للاندماج العمودي قد وضع الخطة الأساس لمصنعين آخرين حول العالم.. إن مصنعه “ريفر روج” هو أكبر مجمّع صناعي في العالم الآن، صار مدمجًا عموديًّا إلى أبعد حدٍّ لدرجة أنه ينتج حديده الصلب الخاص به.. وهو يعتقد أن التجارة الدولية والتعاون يقودان إلى السلام العالمي.. وهو استخدم عملية النهج الجمعي وإنتاج سيارات موديل “تي”: Model T؛ كي يبرهن على صوابية فكرته.
تعليقات