لم أفقد الأمل في الفوز بقلب (أشجان) فظللتُ أُفتشُ عن حجة ما لألتقي بها بعيداً عن الرسميات. رتب القدر مناسبة غير متوقعة: مدير قسم الحسابات الذي بلغ من العمر عتيا سافر إلى مسقط رأسه، ولاقى مصرعه في انفجار سيارة مفخخة، فعُينتُ مكانه!
فكرتُ أن هذه الترقية تصلح حجة لدعوة الزملاء والزميلات إلى مأدبة عشاء. وقفتُ في مقدمة الحافلة التي تقلنا من وإلى المصنع، وأعلنتُ للجميع بمن فيهم السائق أنهم مدعوون مساء الغد لشرب الشاي في فندق داوود ثم لتناول الكباب «القنم» في صنعاء القديمة.
ضجت الحافلة بالصخب وصيحات السرور، وحتى الفتيات لم يُخفين فرحتهن. وكما ظننت لم يستغرب أحد دعوتي، لأن العادة قد جرت عندما تحدث للمرء مناسبة سعيدة أن يقيم وليمة تسمى «الوكيرة».
رفض السائق ذو اللحية الخفية فكرة أن يُغيّر خط سيره، وأصرَّ على الاعتذار عن تلبية دعوتي، وقال إنه لا يحب إضاعة وقته في اللهو والكلام الفاضي! رتبتُ مع الرئيسة (رحمة) مسألة توصيل الفتيات وعودتهن، وأعطيتها أجرة مواصلاتهن. ومن دون أن أُلمح لها، همستْ وغمزت بعينها أنها لن تحضر إلا و(أشجان) معها.
في اليوم التالي حرصتُ أن أصل قبل الجميع. فندق داوود هو في الأصل بيت عتيق متعدد الطبقات تم ترميمه وتجديده، مع احتفاظه بطابعه المعماري العريق الذي يميز بيوت صنعاء القديمة، فصار تحفة فنية لا تمل العين من تأمل جماله. ومُلحق به فناء واسع فيه مقهى أنيس جداً، يتسع لأربعين زائراً، ويُطلُ على فضاء مفتوح تُرى منه مباني صنعاء القديمة السامقة، ومقشامة – بستان- خضراء منظرها يبهج النفس.
توافد الزملاء، وبلغ عددنا اثنان وعشرون، ألصقنا عدة طاولات معاً، وجلسنا جماعة واحدة نشرب الشاي والقهوة القشر ونتجاذب أطراف الحديث. تلقيتُ التهاني والتبريكات بمناسبة الترقية من الجميع بمن فيهم (أشجان) التي كانت عيناها تلمعان رضاً ونشوة.. كيف لا وهي تدرك في قرارة نفسها أنها نجمة الاجتماع وأني إنما أتكلف كل هذا من أجل تليين فؤادها. كانت منطلقة على سجيتها، تدندن وتتمايل، وتمازح (رحمة) بسحب غطاء رأسها، وتسرد النكات فنضحكُ عن بكرة أبينا.. فجأة تجلت شخصيتها الساحرة المرحة المحبة للحياة والضحك ونشر عدوى السعادة.
كنت أحاول منع نفسي من استراق النظر إليها فلم أُفلح، فاستسلمتُ للتحديق في وجهها البشوش وليقل عني النمامون ما يشاءون، ففي قلبي لوعة لا يعلمون مقدارها.
قبل أذان المغرب بنصف ساعة، بدأنا نسمع صوت انفجارات قوية آتية من جبل نقم الذي يُتاخم صنعاء من جهة الشرق. لم نقلق، لأن استهداف جبل نقم في الصباح والمساء صار عرضاً روتينياً مُدرجاً ضمن البرنامج اليومي الترفيهي لسكان المدينة.
رأينا مالك الفندق وهو كهل بدين أبيض البشرة يتفرج من السطح على جلد الجبل بالصواريخ، وكان يتخاطب بضمير الجميع مع (نقم) وكأنه إنسان، بتلك اللهجة الظريفة لأبناء صنعاء القديمة التي ظاهرها الأدب الراقي وباطنها تهكم مقذع! لقد نجحتْ حيلته، واستطاع استبقاءنا ورسم البسمة على شفاهنا.
لكن فجأة خطفتْ أبصارنا كرة برتقالية شديدة الضخامة ظهرت من جهة المشرق، وزمجر صوت انفجار عنيف كالرعد يصم الآذان، وقلبتنا قوة الضغط الناتج عن الانفجار الهائل أرضاً، وتبعثرتْ الكؤوس والكراسي والطاولات، وحتى الأرض نفسها أحسسنا وكأنها قد انقلبتْ على رؤوسنا.
موجة صراخ وعويل تُسمعُ من سائر أرجاء المدينة، ملايين الحناجر كانت تطلق صرخات الهلع، وحتى نحن خرجت منَّا لا إرادياً صرخات ذعر عالية. نهضنا نتخبط بحثاً عن مخابئ نلوذ بها، وقد ظن كل واحد منا أن الصاروخ ولاشك قد وقع على طرف من أطراف الفندق الذي نحن فيه.
ولأول مرة منذ ولدتُ أُعاينُ هذه الحالة من الارتباك والذهول ورعب مشارفة الموت، ولولة النساء وبلبلة الرجال، والأفئدة تدق أسرع من سرعة الصوت، وما عاد آدمي قادراً على البقاء في سكون.
هبط مالك الفندق البطين وهو يرتجف ويتصببُ عرقاً غزيراً، اتجه ناحيتنا وأخبرنا أنه رأى ملائكة خرجوا من باطن الأرض، ثلاثة أو أربعة، لهم مناقير، ويرفعون على مستوى أكتافهم خشبة حدباء، ردوا النار عن البيوت القريبة من الجبل. قال إنه رأى بعينيه اللهب وهو يتراجع للخلف. سقيناه ماءً وطمأناه. لا نعلم ما جرى له، لكن ربما بسبب قوة الانفجار زاغ عقله وانتابته هلاوس بصرية.. كانت أسنانه تصطكُ من الخوف الشديد، وكان يُردد كلاماً لم نعقله، أراد أن يُفصح لكن لسانه ثقل ثم أُغمي عليه.
ورأينا مشهداً لا ينسى لقدرة الإنسان المعاصر على صنع الدمار: قضيب من النار والدخان والشظايا يتصاعد إلى الجو، رأسه عريض منتفخ كحشفة الذكر، وجسمه ينتعظ ويتضخم.. مشهد هتك جنسي فاضح.
شقتْ (أشجان) طريقها إليّ، وصاحت في وجهي وقد انحسر الحجاب عن شعرها وسال الكحل على خديها: «لقد أتيت بي إلى فم الأسد!».
لم أرد عليها، أدركتُ أنها فقدتْ صوابها من هول ما يجري.
خرجنا من المقهى وتفرقنا. العديد منا غادروا دون كلمة وداع، وهم يهرولون ملهوفين للاطمئنان على ذويهم.
بعد دقيقة تحولت منارة الدخان إلى غيمة سوداء حجبت السماء، فحل الظلام على شرق للمدينة، وأخذتْ تُمطرُ رماداً على أجسامنا، كان فتاتاً هشاً متفحماً.. تساءلنا ما عساه يكون؟ وبسرعة البرق تداول الناس أن هذا الهباء المنثور المتطاير من موقع الانفجار ملوث بالإشعاع! وحدث شيء يُذكرُ بيوم القيامة: آلاف الرجال والنساء والأطفال يُغادرون أحياء المدينة الشرقية باتجاه أحيائها الغربية، إلى حيث ما تزال الشمس تُرسل ضوءها، والسماء صافية لم يتكدر صفوها.
كان هذا شيئاً شبيهاً باليوم الآخِر مضغوطاً في كبسولة زمنية مقدارها ساعة واحدة.
جميع وسائل المواصلات مشغولة، وهناك من يدفع مبالغ خيالية لسائقي التاكسي مقابل نقله وعائلته إلى مكان آمن. أحدهم دفع أمامي مبلغ خمسمائة دولار مقابل مشوار كان يُكلفه في الأحوال العادية مبلغاً يساوي خمسة دولارات.
قررتُ مع من تبقى من الزملاء أن نرافق زميلاتنا إلى منازلهن ولو مشياً. تحركنا تحت ضوء رمادي مُقبض يفطر الروح، ونثار الصخور المُتفتتْ ينهمر علينا بكثافة ورائحته المحترقة تملأ رئاتنا. لم نكن وحدنا، أعداد من البشر كالذَّر كانوا يفرون مثلنا صادفناهم في كل منعطف وشارع، وهم يحثون الخطى فراراً من هذا الوحش الغامض الذي يُرخي عباءته القاتمة على مدينتا دون إمهال أو شفقة.
وبحلول منتصف الليل أقفر حي «السد» المكتظ القابع على سفح جبل نقم من سكانه تماماً، ونزح معظم أهالي الأحياء المجاورة إلى أقاصي المدينة.
تواردتْ الأنباء أن الداهية التي ضربتْ جبل نقم هي قنبلة نيوترونية، يبلغ مداها عشرة كيلومترات، وأن عدد ضحاياها قد بلغ 120 قتيلاً، و400 جريح، بالإضافة إلى تضرر أكثر من عشرين ألف منزل.
قضينا ليلة مؤرقة، تناوشتنا خلالها الكوابيس المفزعة. ومع أول ضوء للنهار خرجتُ لأرى جبل نقم، قلتُ في نفسي لعله تشقق أو تغيَّرتْ ملامحه، فألفيته راسخاً في مكانه كشيخ وقور، لا تُبدله الدهور، وبدا لي وكأنه يضحك ساخراً من كل ما يدور.
تعليقات