ميس فهد
لم تكن القرية قبل ثلاثةِ عقودٍ تتسع – بشتائِها القارس وجوّها الكئيب – لطموحاتنا الصغيرة، ولا أعلم إن كان الناس هناك يحلمون بأكثر من بقاءِ المحصول دون أن تطاله جائحة ما، فالمطر لا يكاد يشبع عطش الأرض، ولا دموع المسنين في الصلوات تجد ضالتها.
قالوا لنا إن الخطايا سبب بؤسنا، وإن الأرض والدواب تلعنان المخطئين؛ لهذا أنا جبان ولم أستطع فعل شيء، فقد كنتُ أشك في كل تصرفاتي، وخلجات نفسي خوفًا من أن أكون سببًا في البلاء الذي يحل عليهم، كنت ذنبًا لا يُغتفر، ويصر الوجود على محوهِ بأيّ وسيلة.
الندوبُ التي تركتْها أشواك الطريق في أقدامي، وأغنيات أمي البائسة قبيل الغروب هي آخر ما تبقى في ذاكرتي حتى اللحظة.
– يا هذا، لماذا لا يفعل الله شيئًا لأجلنا ونحن نُكنُّ له كل الحب والطاعة؟
– لا تكفر يا مجنون!
– لا.. صدّقني أنا أحبهُ، ولكنني أتساءل فقط.. هه لكن لا تسكتني بهذا، أنت مثلي أيضًا ليس لديك إجابة.
قال باستغراب وكان أكثر السُجناء ألفة:
– كانوا لا يودِعون القاصرين هذه السجون الحصينة.. لماذا أنت هنا؟!
– لدى القاصرين، يا صديقي، ما يكفيهم من السجون، أتحسب تلك الأكواخ الهشة منازل؟!
ينقصها القضبان فقط، وإلا فإنها تعجّ بالجوع والبرد والبؤس والعناء، تلك هي قضبانها الخاصة، ناهيك عن أني لِتوِّي خلعت السنون التي حصّنها
قانونهم المزعوم، وإلا برأيك لِمَ طال بقائي؟! ربما لأنّ السجن أفضل مكان لسرد القصص الأليمة.
– أتعْلم، أيها الصغير، أنني أواقع هذه المستنقعات من قبل أن تُخلق، وعاشرت جميع أنماط المجرمين والقتلة والسفاحين في أعينهم شيء ما مُختلف.. عيناك لا تشيان بأكثر من إنسان وحيد وخائف ولا يفكر بعمل إجرامي!
– هه.. نعم، ولا أشكل خطرًا على السِّلم والأمن الدوليين.
* كطائر مكسور الجناح سقط تاركًا صغاره لقدَرِهم البائس، في لحظة فقد كل حيلة في إلقاء آخر نظرة عليهم، ها هو الآن في الأسفل كلما سمع صراخهم مات بداخله شيء.
– معذرةً، لم أفهم حكايتك المُسلّية!
– لم تفهم، ولن تفهم.. في الواقع لا أحد هنا يريد أن يفهم شيئًا، كلما يهمكم دلائل صمّاء، لكن لا بأس.
كان هذا إحساس أمي حين تُقرر إخلاء البيت، وترْكنا فرارًا من بطش زوجها وتنكيله، كانت تغادر ولا تلتفت للوراء؛ فنظرة واحدة منّا في عينيها تقتلها.
وجهها وابتسامتها الخائفة عوض كافٍ عن كل ذلك الظلام الذي عشناه ردحًا من الزمن، نكبُر ببطءٍ ومعاناتها تشتد، تأكلها الساعات، وتنحت الأعباء وجهها بقسوة في انتظار شيء ما لا يأتي، لعلها كانت تعقد آمالها في أن نكبر، فنحررها من سجن العجز والبؤس ذاك.
وكلما حاولنا التخفيف عنها رفضت الحياة أن تسلّفنا ابتسامة واحدة، كانت تكتم وجعها؛ فظروف المنزل الضيّقة تحول دائمًا بينها وبين رغبتها في الصراخ والبكاء، لا شيء هنا يسمح ولو بالقليل من البوح؛ ففي كل زاوية يبدو والدي، وفي كل ركنٍ يجلسُ طفل منّا، ولا خيار أمامها سِوى ابتلاع مرارة فوق مرارة.
ملامحها فقط ما كان يفشي لنا حجم ما تتكبده من عناء، وكلما نفد زيت المصباح ساهمت عيناها الجميلتان في بقاءِ المنزل مضيئًا.
لقد وجدت من نفخ النار وسُحُب الدخان سبيلًا لإفراغ بؤسها تحت وابل الهثيم الذي يطفئها، أما نحن فكنا نأكل حتى نشبع، وتكتفي بالبقايا.
– قلت سابقًا أنك تريد ماذا؟!
آه نعم “الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة”، حسنًا اسمع يا سيدي كان للنوم في منزلنا القروي قصص لا تقل إيلامًا عن سائر حياتنا اليومية، بل إنها تفوقها، لقد عارضت بشدة، حين كبرنا، فكرة إحراق تلك الخِرق المهترئة والكراتين البالية؛ فقد كانت فرشنا الوحيد، لتظل ذكرى للأبد.
كان زوجها محظوظًا وينفرد بسرير حديدي ذي فرش وثير، ذلك إن أتى ليلًا، ولا شيء يختلف بعدم مجيئهِ؛ فلا أحد يجرؤ على لمس ذلك الفرش، ناهيكَ عن النوم عليه، بينما يحظَى أطفاله بالنوم جنبًا إلى جنب تحت سقف السرير مع أمهم، أما البالغون فقد تحسّن حالهم، وتقرر نومهم في الجانب الآخر من الغرفة، ولا يشغل بال الصغار سوى سؤال أمهم، متى يكبرون ويرتقون لمصاف الكبار؟!.
كان على البرد، كالخوف تمامًا، أن يخرسهم كي ينام قريرًا، بينما تبيت الأم تتلوى لتُوفِّر الدفء للصغار.
أتذكر أن زوجها كان يفكر قبل مدة ببيع أحدنا، لكن لا أحد هنا يرغب بشراء معاناة من هذا النوع، قد لا تصدّق كم دعوت وتمنيتُ مرارًا الحصول على معجزة؛ كأنْ لا يأتي الصباح إلا وأنا جَمَلٌ أو حتى عنْز!
ربما كان الأمر سيختلف قليلاً .!
– الأمنيات لا تشبع جائعًا أيها الأخرق.
– نعم، ولأنها كذلك أنا فقط أهذي وأتمنى، آهٍ كم يسعد الإنسان الخيال والأوهام!
– في الأخير ماذا؟
لا أنك بقيت إنسانًا، ولا حتى صرت حمارًا.
– وقهْقَه الرجل ساخرًا رغم أن القانون هنا يمنع تعاطي الضحك أو قليلًا من الرأفة مع الجناة، لكنه فعَلها ساخرًا على أيّ حال، وتنهّد.
– قلت في نفسي: لعل قصته تشبه ما أنا فيه، لكنه كان أكثر عقلانية، أو لعله لم يدْرِ بعد أيّ الخيارين هو!
– هل ترانا خطيئة أو إثمًا أو ذنبًا غير قابل للمغفرة؟
– لماذا تظن ذلك، وأخذ يضرب بعصاه الكهربائية راحة يده بهدوء.
تنهدتُ وعاجلته قائلًا:
– اِنْسَ ذلك، بالكاد نسيتُ ضربات الأسبوع الفائت وأنا مهشم لدرجة أن ضربة أخرى قد تنهي حياتي.
– اااها…. حياتك غالية إذن!
– لا.. ليست كذلك، ولكن كإنسان أستحق أن تنتهي حياتي بشكل لائق يا سيدي، كأنْ لا أصبح مشوهًا، أو تالف الأعضاء، صدّقني لم يكن حلم أحدنا يومًا أن يكون بائسًا إلى هذا الحد.
بتهكّم لا أدري له سببًا.. أجاب:
– استمر، أنا فقط أستمتع بسردك هذا الهراء، كونها ليلتك الأخيرة.
– نعم، سأفعل.. أنا هنا لأمنح هذه القضبان والظلام والأحجار القليل من المتعة.
* فـ” الليالي الأخيرة” لحظة لا نؤمن بها على أنها الخاتمة، بل خلاص من جائحة كالفراغ، ولعلها مضت دون أن تراك، فيبقى المهم أن تُدرك ليلتك الأولى.
*الليلة الأولـىٰ:
صحوت منتصف ليلة مشؤومة وقد أوشك المنزل الخشبي على العوم وسط ماء المطر، كان كوخًا حقيرًا من الصفيح، ارتفع صوت شجاره كالعادة ولكن هذه المرة كان يساومها على شيء صعقها؛ فانفجرت باكية:
– يا إلهي، فقد الرجل صوابه!
كيف ستبيع ابنك، لا لن يحصل هذا ولو كلفني حياتي.
– هه، وكأنّ لحياتك قيمة أيتها الـ××××
اسمعي، ستأخذه غدًا سيّارة السوق، وهناك اتفقتُ مع أحدهم أن يسمح له بزيارتك كل عام.
– لا لن يكون هذا أبدًا.
– إذا نبيعك ونطعمهم.. ما رأيك!
– أعلم أننا نكلفك الكثير، ولكن أنحن بلا قيمة بالنسبة لك إلى هذا الحد..؟!
وبملامح باردة، تُناقضها عيناه بلونهما الدموي المعتاد، نظر إليها مليًّا كأنه يبحث عن مكان شُفي منه أثر كدمة سابقة.
مرت لحظة صمت، أيقظها….. دوي صفعة شديدة في خد المرأة الهزيلة المنحنية أمام ذلك الطور، فزعنا على إثرها، وكنت الوحيد الذي اقتحم الغرفة، كانت قد نهضت وخبأت أثر الصفعة، وظلّت تستميت في تحذيره ومنعه وترجيه.
– عدتُ مكاني وكان إخوتي يغرقون في بكاء مرير لا يسمع له صوت، ملتفين حول بعضهم في خوف، كل هذه الجلبة لم أحرك ساكنًا أو أواسي أحدًا، ولا حتى ارتجافي، لم أعِ شيئًا لحظتها رغم أني أنظر وأسمع، كنت في مكان آخر، ربما كانت هنا أولى محاولاتي في التخلص منه.
كنا – آنذاك – سبعة أفواه، والقائمة تنتظر عالة جديدة تُضاف إلى أعباء والدهم، رغم أن أمي قد استنفدت كل الحِيَل الممكنة لإجهاضه، شاهدتها تركض في الشعاب كثيرًا، ومرةً تحمل أشياء أكبر من وزنها، ولا تكف عن الاعتذار لله وطلب المغفرة.. إنها مجبرة على إزهاق روحها هكذا.
* إن من المستفز الموجع أن الصغار يكبرون ببطء شديد، أولئك غير المرغوب بهم، والأشد بؤسًا، لكنّهم على الأقل يشعرون بذلك؛ لذا تجد الشوارع مُتخمة بالمشردين، إن هؤلاء ليس لهم مراحل عمرية محددة، ليست لهم طفولة أو مراهقة أو فرصة للخطأ والتعلم، إن حياتهم عبارة عن قفزات.
– لا أتذكر كيف ودعتني حقيقةً، ما أعلمه أن الخلاف كان قد حُسِم هناك، ووقع الاختيار على هذا السيئ الحظ، لم أعد أعلم كيف صارت أمورها، لكني أبعث لها مع المسافرين.. كانت لا تقرأ، ولكنّها تشعر بدمعي على الورق، أما هو فلم يكن ليسألها عني البتة.
ليتك تعلم كم عدد المرات التي حاولت فيها أنْ أحبه، لكنّه لم يعطني سببًا واحدًا، بينما فاض الكيل بألف سبب للنفور منه.
عن تلك اللحظة التي رأيتها ممددة على السرير في المشفى، فاقدة الوعي إثر الفجيعة التي سببها لها، حين أشعل النار في يديّ أخي الذي وشى به أحد الفتيان المنعمين، أنه جرّب ارتداء حذائه فأصبح متسخًا برأيه.
– إنهم يصنعون بأنفسهم صورهم الوحشية فينا ولسنا مذنبين حين نكرههم، أليس كذلك؟
لم يجبني؛ فهو ممثل القانون الآن، وعليه أن يخرس حين يتعلق الأمر برأيه الشخصي.
* تحركت الأبواب الحديدية؛ علمت أنها نوبة الضابط الآخر، فقد أخذتُ أكبر من المتاح لي بالحديث، كنت مرهقًا للغاية، اليوم الثالث على التوالي ولم يغمض لي جفن.. إنها المرة الأولى التي يسمحون بها لي بالكلام خلال خمسة أشهر قضيتها مرميًّا في زنزانة كأنها القبو؛ لشدة ظلمتها مع بضعةٍ أكثر ظلامًا، دونما تحقيق، ولا سؤال إلا ما نذوقه من سياط زبانيته،
خمسة أشهر وثمانية أيام تامة دون أن أراها..
* الصمت واحدة من أقسى العقوبات هنا، حتى الجدران لا يعني لها شيئًا حاجتنا للكلام، وعندما يؤذَن لك بالتحدث، تأكد أنك في حُفر الجحيم للقنوط والاعترافات الملفقة، إنها الوجه الأبشع للجريمة، تحت قناع القانون.
-جلس الضابط إلى جواري وبدت عيناه مُشرقتان، وقد وضع على بُعد أمتار الملابس الزرقاء، ففهمت مغزاه.
ثم قال برواقٍ تام:
– في العادة تكون الساعات الأخيرة من حياة الجناة حزينة ومخيفة ولا أستطيع وصفها، أما أنت فعلى العكس تمامًا، انظر هناك، ينصب هؤلاء الرجال المحطة الأخيرة من حياة أحدهم، ألا يرعبك هذا المشهد؟
– كان وجهه أكثر من هذا بالنسبة لطفل صغير، رسم في ذهنه صورة مشرقة عن الآباء.
– لِمَ قد يفكر الصغار بأعمال أكبر من حجمهم؟
– لأنهم يعيشون واقعًا أكبر من حجمهم بالطبع!
– هل تُخجلك هذه الثياب؟
سيدي الضابط!
– لا أستدرّ عطفكم الآن، أعلم ما سأجنيه من خلال هذه الثياب الزرقاء، افتراء أننا خُلقنا طيبين.. صدقني هذه الحياة ترفض أن نظل ذات صفحاتٍ بيضاء نقية.
أأًخبرك بسرّ يا سيدي!
أنا خائف جدًّا.. ألا تظنني أدرك بشاعتي؟
وحشًا صغيرًا متجردًا من عواطف الصغار، كان يجب أن أكون الآن مثلهم في المدرسة ولعلي هربت لألعب الغميضة، لا داخل هذا القبو المظلم، لكنّي لستُ نادمًا، إنْ كانت يد هذا الضخم بجواري تطالني ليل نهار، لأهون بكثير عليّ من تلك الليالي البائسة التي تحفّها صرخات تلك العجوز.
حسنًا؛ إنني هنا أستطيع الصراخ بـ”لا”، لم أعد أرتجف تحت لحافي عندما أسمع وقْع قدميه، كنت قد استيقظتُ يومًا على وقع خطى حارس السجن فوددتُ عناقه، هذه المشاعر الساذجة المثيرة للشفقة هي طفولتي أمامك.
ثم يأتي أحدهم ويسألك ما الدافع، ومَن حرّضك ..!
– بصراحة.. كان قد طلب مني الشيطان قربانًا شرطَ أن يكون ذا قيمة وأحنُّ الخلق عليّ، ففعلتها وأصبحت مجرمًا، وتحققت أمنيتي، وانتهى الأمر.. هل هذا مناسب لملف حضرتكم؟!
* وأنا من هنا أبرئ أمي مِن كل هذا.. ليس لديها مسخ كالذي يحدّثك الآن.
– قطع الحديث صوت مبحوح لا أعلم كيف تجاوز كل الأبواب الحديدية حتى وصل إلى هنا، هي هكذا تخاطر ولا تهتم لمصيرها.
– سيدي الضابط.. سيدي.. سيّ…!
انفجرت في نوبة بكاء طويل، والوقت المسموح لها بالزيارة الأخيرة يلفظ لحظاته، لكنها لم تقل شيئًا، إنها تشعر بالذنب يا سيدي.
أتى صوت أحدهم!
– يا لها من بائسة!
– لا بأس.. على الأقل لن يكون هناك ما ينغص عيشتها، ويعكّر صفوها.
– أتظن ذلك حقًّا؟
ماذا عن الذكرى.. أتعتقد أنها لن تؤذي نفسها بعدي؟
دوي ضربة قطعت الكلام، إنها يد الضابط حين أسقطها بقوةٍ على الطاولة، ثم بنظرةٍ اشمئزازية:
– انظر إليّ أيها المتلاعب، لا تهمني كل هذه التراهات، لم أخرجك لتروي لي قصتك الدرامية، أريد أسبااابًا يا بني أسبااابًا، أحد ما حرضك أو أعانك، ومن أين لك بأداة الجريمة؟!، شيء ما يمكن إضافته لهذا الملف المقيت!
*هيااا تكللللم:
ثم أسند ظهره للخلف، وابتسم قليلًا حتى برز سنّه الذهبي، فكانت أقرب لبثّ الرعب منه إلى الاطمئنان..
ولن أحذّرك أن تتلف أعصابي أيها الصغير.
– كان قد أعادني ذلك الدوي الذي سببته قبضة الضابط إلى آخر مرةٍ تركتْ فيها تلك المسكينة منزلنا؛ كان بسببِ سبعمائة ريال التمسَتْها بدافع الحاجة لفرط الجوع من معطفِ رجل قالتْ لنا إنه والدنا، حاولنا جاهدين الحيلولة دون انفراط عقدِ أحلامنا، بحثنا عن أقربِ سوقٍ نبيعُ فيه كِلية أحدنا لتسويةِ الأمر، هزّت رأسَها وقالتْ بصوت مبحوحٍ وغصةٍ أليمة: ليستِ المشكلةُ في “السبع المائة” يا صغاري!
المشكلةُ أنها كانت آخرَ قشـةٍ بيننا في هذا الجحيم، أنا أهـوَنُ من مجرد “سبعمائة” في نظرِ أبيكم.
من يومها وأحلامُنا مصابةٌ بسوء التغذية، مؤلمٌ ألّا نساوي “سبعمائة ريال” في حياة قريب.
بعد مدة كان اليأس تمكّن مني في أنهم لن يدعونني إلا على المشنقة، كنت قد قلت الحقيقة أولًا، ثم ما أرادوا فحسب، ولا شيء بعده، أخيرًا كُبّلتُ واقتادني جنديان يلعفان القات حتى هذه الساعة، ثم مشيتُ طوعًا، بل وددتُ لو استطعت الجري لولا ثقل قدماي وقروحهما.
– إن لم تقضِ ليلة في زنزانة حقيرة منتظرًا مصيرك، وعلى مضض تسحبك اللحظات، لن تدرك أبدًا معنى الحياة/ الموت، وبينهما ذلك البرزخ يفصلك عن العالمين، يمر الوقت بطيئًا كأنه سكين حدباء تذهب وتجيء في عنقك، وخَلاصك مصلوب في ملف قاضٍ يشخر الآن، ويلعنك حينما تكون شمسًا، تنتظر بمخاوفك لتحوطك مستلذة بأقل مهل تجيده، وإذ إن من عادة الصبح أن يبدد جميع مخاوفنا فيجعلها عرضة للضحك، كان هذا لا يزال أملي الأخير، لكن بدا الأمر مختلفًا هذه المرة؛ الظلام داخلي لم يعد يرديه ضوء، لعلّي كنت أحتاج شيئًا كالموت يغرب سريعًا.
* * *
عادةً ما يتأخر موكب النيابة حتى الحادية عشرة صباحًا، أشياء روتينية تضاعف أعباء المترافعين وذويهم، الوضع حرج للغاية وبالكاد يسمح بحضور جمهور يشهد قراءة الحكم النهائي إذلالًا للجناة وأهاليهم.
يهزّ أحدهم رأسه:
يستحق التعزير أو المؤبد إنْ لم يكُن القتل معه، وشعورًا بالنقمة تبدأ الأفواه بصبّ وابل من البذاءة والشتيمة هنا وهناك.
– أتأمل، فكأنّ الوجوه أشد وضوحًا هذه اللحظة، شاخصة وغريبة جدًّا، ومرعبة أكثر، إنك تبحث عن مصدر للحياة بين كل هؤلاء المحبين للعدالة.
التزمتُ الصمت، وفي داخلي فوهة بركان تأكلني حقدًا على هذا العالم التعيس الذي يستلذ معاناة أحدهم، ويتشفى بمصيره، وشيء ما بداخلي يجعلني سعيدًا؛ إذ أني لست بينهم، ولا أشبههم، ولن أكون بعد قليل ناظرًا إليهم.
كانت صفارات إنذار شاحنة السُجناء تُنذر بشيء مخيف، ويمزق ذلك الصوت بقسوةٍ أحشاء أمِّ وإخوة المحكوم عليه، يفسح الطريق للقادم من وراء القضبان، كانوا مرتجفين فوق شعور العار والألم الذي لحق بهم، ساد الصمت وتملكتني مشاعر الخوف للوهلة الأولى، لقد رسمت في مخيلتي صورة عنها بعد رحيلي، وسط الجموع تمكنتُ من رؤيتها بصعوبة، تتهادى بين جنديين مدججين بالسلاح.
– بحق الله لا تدعوها تقترب؛ يقال إنها تعاني مرضًا عضالًا، ارحموا ضعفها، ألا يكفي أن تقطعوا الآن يدها اليمنى؟!
كانت الساحة ضيقة قليلًا بحيث يستطيع الجميع رؤية المشهد، أُعيدت الأم إلى الوراء، وظلّت في عناية مجموعة من ذوي الشفقة.
تمت بإحكام عملية شدّ الوثاق، والتأكد من جاهزية الحبل الذي سيتدلى فيه معلنًا انتهاء حلم آخر.
* فقد اعتادت هذه البلاد أن تثقب صدرها؛ لتحشر أبناءها الشباب، في ظنٍّ منها أن دماء اليافعين تجعلها شابة أكثر من رفات العجائز، وأصبحت الجثث الجماعية ذات حظوة أكثر لديها، وما كان هذا الحدث إلا إحدى الوجبات المملة بالنسبة لها!.
يصعد بهدوء على الخشبة المربّعة الشكل، تم وضع الحبل حول عنقه بعد أن عُصبت عيناه، وطُلب إليه قراءة الفاتحة والتشهد الأخير، هذه المراسم وإن كانت مريعة حقًّا، إلا أنّ فتانًا كان محظوظًا، كثيرون لم يجدوا وقتًا لهذا، ولعله محظوظ مرتين؛ إذ إن العقاب كان حتميًّا هكذا، ولمرة واحدة، ماذا لو كان الحكم “السجن المؤبد”؟!.
أغمض عينيه، لأول مرة يشعر بأنفاسه قريبة إلى هذا الحد، تسعة عشر خريفًا تمر بهذا الظلام المحيط، صور كثيرة، قيود وعتمة أشدّ مما هو فيه، ونور وحيد كان يظنه والدته، تبيَّنه بصعوبة الحشرجات الأخيرة، أراد الصراخ، إنما يخشى نفاد الهواء المتبقي له، أراد تفريغ كل هذا بعبارة واحدة “لماذا يا أبي؟!”
خفقات مهولة، وعرَق امتزج بالدمع فزادها غزارة.
أنفاس متقطعة…، وغمغمات غير مفهومة.
ضربات أيقظت العجوز القابعة في الصقيع، هبت بذعر لتوقظه، فتح عينيه على وسعهما فبدا مهولًا، وأمسكها من كتفها، وبصوت مرتجف ويكأنه آتٍ من عالم آخر:
– دعووه أرجوكم، أنا حيّ لم أمُت، انظروا إليّ، انظروا!
أتوسل إليكم.. دعوا صغيري.. الذنب ذنبي أنا.
بدا شاحبًا للغاية، واستمر بالصراخ اللا مفهوم للحظات حتى استوعب أين هو، وانقشع القناع، تحوّل فجأة إلى شخص آخر، يبحث ويصول ويجول في الكوخ ذاك، ثم عاد يتلمّس نفسه.
نظر إليها، انكمشت بخوفٍ، لم يسعها الوقت حتى تتنفس فقد باغتها باحتضانٍ شديد، كان يبكي وينوح كطفل بهيئةِ غوريلا مجروحة.
لم تستطع أن تخفي دهشتها، وهي تعبّر عنها بالدمع، موقنةً أن دعواتها قد استجيبت، وأن الله نظر إليها بعد هذا الصبر.
– أبْعدها برفق وفزع مغبرًّا وعلى وجهه شيء غريب: ولكـ ـن أيـ ـن عُمرر؟!
وضعت يدها على صدره مطَمْئنة:
إنه نائم في أرضية المطبخ، هرول إليه وقد شعر بالمسافة تطول رغم ضيق العشّ وصغره.. نظر إليه، كان غارقًا في نومه بعد عودته من مورد الماء.
إنها المرة الأولى التي يلاحظ كم غدا شابًّا وطويلًا ولكنه شديد النحول، وضع رأسه بين كفّيه وبكى؛ إذ لم يستطع ضبط انفعالاته حينها.
حاول في لحظةٍ إحراق كل صفحاته السوداء، أو على الأقل إعادة ألوانها بشيء أكثر لطفًا، احتضن صغيره بقوة أيقظته، أظنه مر بشعور إبراهيم لحظة نزول الكبش كفداء.. تلك كانت المرة الأولى التي ينظر فيها للسماء ممتنًّا شاكرًا أن اعطته فرصة للحياة، هي الشحيحة دائمًا بذلك؛ ليمنح صغاره سببًا للعيش والحلم، لا سببًا لليأس والموت، فهنالك ما يكفي.
**يُجدر باللحظات الأولى ألا تُنسى، أن تُكتب وحدها، كي لا تموت، ولا تأتي النهايـــة.
تعليقات