Accessibility links

إعلان

فكري قاسم*

بضربة حظ، لقيتني في سنة 1999 أتجول فجأة في شوارع مدينة الإسكندرية الفاتنة، وأقول للرايح والجاي “إزيَّكْ”.

وبواب العمارة، وسائق التاكسي، واللي يعمر الشيشة في القهوة، كلهم يقولوا لي:

– أهلاً يا بيه.

– اتفضل يا باشا.

وهدار مليح من هذا بعدما كنت وانا ادرس في جامعة صنعاء ما اسمع يومية غير:

– وخِّر يا جني.

– اطلع يا هيلوكس.

ومن زنقة الظهيرة حيث البرطعة اليومية في سوق القاع وراء رقبة أقرحها لزوم الغداء والقات، مباشرة إلى زنقة السِّتات في ميدان المنشية، حيث الزحام منعشًا، وعيوني طوال الوقت يسترقن النظر بين المارة إلى عيون وأرداف الجميلات والقبيحات والعجائز معًا. 

وخلال 45 يومًا في الإسكندرية تعلمت حاجات كثيرة، وصادقت شبابًا كثر.. سألني أحدهم مرة واحنا جالسين – العصر – في قهوة بكامب شيزر:

– إنت جاي سياحة؟

– لا.

رديت عليه بحزم، وسألني فيسع:

– أكيد جاي تتعالج، أوتدرس، صح؟ 

قلت له: لا.

وساع الذي شاف في وجهي الشاحط ملامح أبهة وفخفخة، قال يسألني:

– طب أكيد جاي مصر تستثمر!

المسكين واخذ بي مقلب كبير ومشو داري أصلاً أن لي ساعتين ملجوع جنبه في القهوة مراعي لأحد أقربائي لما يجي يحاسب حق القهوة والشيشة ويروحني !، وقال جاي تستثمر !

وفي الإسكندرية عمومًا شفت الدنيا في أجمل صورها، وابتعد الذحل القاحف من وجهي، وأصبح عندي أصدقاء خيرات، غير مهيوب وفارع وبجاش وهزاع وعُبده ومكرد، وشعرت لأول مرة في حياتي بمتعة أن تنادي في الشارع على أصحاب أسماؤهم: رمضان وشريف وبيتر وجرجس وبطرس.

وأما النسوان فمناداتهن بأسمائهن في الشارع بين الناس من الأمور التي شدت انتباهي، خصوصًا وأني كنت ما زلت حتى ذيك اللحظة الفارقة من عمري مقدرش أقول اسم أمي بين الخلق!، ولو أشتي أنادي عليها من زغط الحارة، أصيح لها:

– يييييه.. ياويييه.. يا أماه.. وإن ما سمعتني، أرجع أصيح لها باسم اخوها:

– يا أحمد

يا زعم مشتي أحد يعرف اسمها خوفًا على طبقة الأوزون لا تختزق!

والمهم أنا ورمضان ورفعت وجرجس وبيتر صرنا أصحاب قوي قوي، وحضرت معهم لأول مرة في حياتي جلسات «بانجو» لم يبقَ منها في ذاكرتي غير رائحة الدخان الكثيف.. وهاذاك اليوم واحنا جالسين في نفس القهوة المعتادة كلموني عن الحشيش، وكلمتهم عن القات البلدي والقَطَل!

حدثوني عن النيل وعن السد العالي، وحدثتهم عن سد مأرب وعن بركة «الممعوص».

حدثوني عن أهرامات الجيزة، وحدثتهم عن مطاعم العزعزي للعصيد.

حدثوني عن القناطر الخيرية، وكلمتهم عن المعابر والبنادق المطعفرية!

حدثوني عن صعيد مِصر، وحدثتهم عن عصيد القبيلة في اليمن!

كلموني عن أم كلثوم، وكلمتهم عن أم الصبيان اللي تركض حياتنا.

حدثوني عن أبي الهول، وكلمتهم عن أبو دبة، وبنت الصحن، وعن فلسفة ابن هادي.

وأيش يعني؟.. كُلنا أصحاب حضارات ، وما فيش حد أحسن من حد.

المهم في الموضوع أنهم كانوا يغيظوني بصراحة وهم يتكلموا عن بلادهم العظيمة وعن رموزها من فرعون إلى جمال عبدالناصر ، بكل فخر واعتزاز، وانا جالس بينهم مطنن ومفكود على بلادي اللي محد يعرف عنها شيء، وما لقيت لحظتها عمومًا أفضل من أن أخرط عليهم، والخرط في مثل هذه الحالات طبعًا مهمة وطنية.

قال رمضان معاهم من الشعراء فلان وفلان، وقلت له واحنا في اليمن معانا شعراء ملان، وأولهم نزار قباني.

– نزار قباني سوري..

رد عليّ معقبًا، وقلت له مؤكدًا:

– لا لا.. نزار قباني يمني، وأصله يعود إلى مقبنة في تعز.

صدَّقوني، واستمر الحديث بيننا على هذا النحو من المغلاطة الوطنية، وسألتهم:

– تعرفوا جيمس بيكر؟ وزير الخارجية الأمريكي.

– مالوه؟ 

– هذا يمني من بيت بيكر في بني مطر، إحدى قرى العاصمة صنعاء.

– تعرفوا الملاكم محمد علي كلاي؟

– مالوه؟

– هذا يمني من كلابة.

غير أن الإحراج الكبير بدأ ذيك الساع، لما سألني جرجس:

– إنت درست إيه؟

– إذاعة وتلفزيون.

رديت عليه بسرعة وانا فرحان، وعادنا ما قد كملت أهدر إلا وسألني شريف وهو يضحك:

ـ وهو انتو عندكم في اليمن تلفزيون من أصله عشان تدرس تلفزيون؟

أيامها كنا عاد بث الفضائية اليمنية ما يوصل إلى صعدة، ومع هذا حاولت إقناعهم أن معانا قناة فضائية تبث من صنعاء، وأخرى محلية تبث من عدن، وقالوا يللاه ندخل في تحدي وندور على القناة الفضائية اليمنية الآن في الستالايت.

كانت الساعة حينها قد تجاوزت 12 ليلًا، واحنا جالسين في نفس القهوة بكامب شيزار، وبسم الله الرحمن الرحيم أخذ رمضان الريموت وبدأ يقلب القنوات، يدور بينهن على الفضائية اليمنية.

وظهرت في الحال على شاشة تلفاز القهوة الفنانة  فايزة أحمد تغني من قناة البحرين، وكلهم لما شافوها صاحوا فرحين بصوت واحد هز أركان القهوة:

– أهُم أهُم أهُم.. المصريين أهُم.

قلب القناة اللي بعدها، وطلعت مسرحية “شاهد ماشفش حاجة” من قناة السودان، وصاحوا بنفس الصوت الجماعي:

– أهُم أهُم أهُم.. المصريين أهُم.

وبضغطتين على الرسيفر نطت القناة المصرية الأولى والثانية، وصاحوا:

– أهم أهم أهم.. المصريين أهم.

المهم قلّبوا يجي خمسة عشر قناة لبلدان عربية مختلفة والمصريين موجودين فيهن بغزارة، وحضورهم الإعلامي كبير.

وبينما كان رمضان مستمر يقلب القنوات واحدة بعد أخرى وانا جالس بينهم محبط اتوقلل بحال، مراعي متى تطلع قناة اليمن، وفجأة طلع المذيع محمد كريشان يقرأ خبر عاجل من قناة الجزيرة، قال فيه:

– اختطفت اليوم مجموعة مسلحة في اليمن ثلاثة سياح أجانب من أحد شوارع العاصمة صنعاء.

وذيك الساع مباشرة قمت ابترع بينهم في القهوة، واهتف بصوتي، واصيح من شدة القهر:

– أهُم أهُم أهُم.. اليمنيين أهم!

– أهُم أهُم أهُم .. الله ينتقمهم!

* كاتب يمني ساخر.

   
 
إعلان

تعليقات