وجدي الأهدل*
هناك نوعان من الأداء: الأول الأداء الخيالي، والثاني الأداء التقني.
النوع الأول يركز على الداخل، أيّ التقمص الوجداني للشخصية، ومحاولة إسقاط تجارب ذاتية – خبرات حياتية سابقة على الشخصية التي يؤديها الممثل، وهنا يبذل الممثل جهدًا عظيمًا للدخول في جلد الشخصية.
وبتعبير آخر يبدو الممثل وكأنه تعرض للّبس، فإذا كان شائعًا عند العوام قولهم إن فلانًا أو فلانة قد تلبّسه أو تلبّسها جني، فبهذا المعنى يبدو الممثل وكأنما قد تلبَّسته الشخصية وحلّت روحها في جسده.
يوضح جلين ويلسون هذه النقطة في كتابه سيكولوجية فنون الأداء على النحو التالي:
“وقد استخلص (بيتس) من ذلك أن الممثلين يقومون بالنسبة لمجتمعنا المعاصر بالدور الخاص نفسه الذي يقوم به الكهنة السحرة في المجتمعات البدائية، فهم يحولون عالم الخيال والتخييل (العالم البديل) إلى وجود قابل للتصديق.. إنهم سحرة روحانيون استيهاميون يحولون العالم الأرضي الدنيوي إلى عالم آخر، ومن أجل الوصول إلى هذا يحتاجون إلى فهم ذواتهم فهمًا عميقًا من خلال وصولهم العميق للمستويات الروحية والسيكولوجية الموجودة داخل أنفسهم”(ص69).
النوع الثاني من الأداء يركز على الخارج، فيتخيل الممثل كيف ستبدو الشخصية التي يؤديها من وجهة نظر الجمهور، فتراه يهتم بأدق التفاصيل المتعلقة بملابسها وملامح وجهها واكسسواراتها وأسلوب حديثها وإيماءاتها وطريقة مشيتها، وسوى ذلك من التفاصيل الخارجية. وفائدة هذا النوع من الأداء أن الممثل نفسه يدخل في جو الشخصية شيئًا فشيئًا، ويتقمصها بيسر، دون أن يخاطر بإقحام ذاته الخاصة في الشخصية مهددًا كيانه النفسي.
بحسب ملاحظتي البسيطة لأداء الممثل اليمني، يُرجَّح أن أداءه أقرب للنوع الثاني (التقني)، الذي يبدو ظاهريًا أسهل من النوع الأول (الخيالي)، إذ لا يحتاج الممثل إلى الاندماج التام مع الشخصية، واستبطان سلوكها وخبراتها النفسية وطباعها الغالبة، إذ يكفي أن يرتدي زيًّا معينًا ليدخل في الشخصية، وأن يتصنَّع إيماءات وتعبيرات وتكرارًا لبعض الألفاظ بمناسبة وبدون مناسبة ليؤدي دوره بنجاح كما يتصور.
يُفضل الممثلون الأمريكان الأداء (التقني) ليس استسهالا كما يفعل الممثل اليمني، ولكن لأنه يتطلب دراسة الشخصية، والإلمام بكل ما يتعلق بها، وبالطبع ينتج عن هذا الفهم العميق للشخصية مستوى أداء على درجة عالية من الاحترافية، ويظهر التفوق المهني في القدرة على تطويع الجسد وقولبته وفقًا للدور المرسوم في السيناريو.
في فيلم “المنبوذ” تعمد (توم هانكس) رفع وزنه عشرة كيلوغرامات ليبدو بدينًا عندما سقطت طائرته في جزيرة نائية، ثم أنقص وزنه عشرين كيلوغرامًا لكي يقنعنا أنه صار نحيلاً بعد إقامته لسنوات في جزيرة معزولة عن العالم.
بالنسبة للممثل اليمني نلاحظ أنه في بداية عمله بمهنة التمثيل يبدو نحيلًا كعود القصب، وبعد مرور سنوات يتحول إلى سمين منتفخ الأوداج.
في موسم رمضان الدرامي لعامنا هذا (2023) لاحظ الجمهور اليمني حالة السمنة التي أصابت معظم الممثلين اليمنيين، وترهل أجسادهم وكروشهم البارزة.
من المعيب أن يهمل الممثل لياقته البدنية، ويميل إلى حياة الدعة والكسل والخمول، ويتجنب ممارسة الرياضة والاعتناء بمظهره الجسدي.
الأداء (التقني) قد يصل إلى درجة مدهشة من المهارة، كما فعل الممثل الأمريكي (دانيال دي لويس) حينما ورد في سيناريو فيلم “عصابات نيويورك” مشهد يقوم فيه بالطرق بحد السكين المدبب داخل بؤبؤ عينه.. لقد نفَّذ هذا المشهد الخطير مدركًا أن احتمال الخطأ قد يكلفه فقأ عينه وفقد القدرة على الإبصار بها.
يبرر الممثل اليمني تواضع أدائه بقوله إنه يفعل ذلك نزولًا عند رغبة الجمهور الذي يريد منه إضحاكه، ولكن هذا (الإضحاك) لا يحدث بطريقة صحيحة، فالتكلّف الزائد، والتغابي، وتهافت الشخصية، والجهل بأبسط قواعد الكوميديا، كل ذلك يؤدي إلى حرمان المشاهد من متعة الكوميديا وخروجه بمشاعر مناقضة مثل خيبة الأمل والإحباط والسخط أحيانًا.
يقول جلين ويلسون في كتابه سالف الذكر:
“إن الأمر المأساوي من وجهة نظر ممثلي الكوميديا وكُتَّاب المسرح الكوميديين هو أن يكتشفوا أن المادة التي يقدمونها لا تستثير أي ضحك من مجموعة كبيرة من الناس، وتسمى هذه الظاهرة بالموت على خشبة المسرح (Dying on stage)، وهي ظاهرة تعادل أو تماثل الإجماع على الرفض أو الاستهجان.
ويتم الحديث عن هذا الأداء بعد ذلك باعتباره أداء سخيفًا، أو سمجًا، أو غير مضحك”(ص 119).
يتوهم الممثل اليمني أن تشويه ملامح وجهه، أو بتعبير ملطف اللعب بوجهه، كفيل بإثارة ضحك الجمهور، وهذه حيلة رخيصة، لا تليق بالفنان، ويتوجب على الممثل اليمني التخلص منها فورًا إذا أراد أن يحافظ على الحد الأدنى من الأداء المهني.
في مسرحية “شاهد ما شفش حاجة” أدى عادل إمام واحدًا من أفضل مشاهد الكوميديا حينما عاد من عمله وفوجئ بوجود عناصر الشرطة في شقته، ومن شدة خوفه فقد القدرة على النطق، وكان يعطي لمن يقترب منه حبة خيار، فلما اقترب منه مخبر ضخم الجثة مفتول العضلات مدّ له بأربعة خيارات فانفجر الجمهور بالضحك! لقد نجح عادل إمام في إضحاكنا وهو صامت، ودون أن يتفوه بكلمة واحدة.
الكوميديا فن رفيع، ولها أثر إيجابي على الحياة العامة، وقد تشفي مجتمعًا بأكمله من الحزن والألم.. إن تأثيرها الطبي على النفوس يكاد لا يصدق، ويمكننا أن نقدر أن أولئك الأشخاص الذين ماتوا بجلطات أو نوبات قلبية من شدة الغضب أو اليأس أو تفاقم المشاكل، كان يمكن إنقاذهم عبر مشاهدة أعمال درامية كوميدية تعمل على تنفيس هذه المشاعر السلبية وخفض التوتر الناتج عنها.
لذلك نأمل أن يتأمل الممثل اليمني الأعمال الكوميدية العربية والعالمية، ويستخلص منها خبرة جديدة.
الكوميديان الحقيقي فنان لا يقدر بثمن، وهو يوازي في أهميته الرموز القومية التي لا يجوز التفريط بها.. يمكننا إعارة أساتذة جامعات أو كفاءات نادرة لدول أخرى، ولكن فنانًا كوميديًّا مستحيل.. فنحن لا نتخيل مصر بدون عادل إمام أو سوريا بدون دريد لحام.. هؤلاء ارتقوا إلى درجة كونهم ضمير شعب، ورمزًا لوحدة الأمة.
يتحدث جلين ويلسون عن الفنان الكوميدي:
“من الناحية الظاهرية يعتبر ممثلو الكوميديا مجرد قائمين بالترفيه، فهم ينشرون مرحًا حولهم، لكن الوظيفة الاجتماعية لممثلي الكوميديا تتجاوز هذه النظرة السطحية إلى حد كبير، فهم يقومون بوظيفة تربوية كذلك، حيث إنهم يعرضون علينا أنانيتنا وحماقتنا، وينقذوننا من بعض وجهات النظر شديدة الخطورة أو القتامة التي قد نتبناها حول الحياة.
لقد تعرفت المجتمعات القديمة على أهمية المهرجين كفلاسفة ومعلقين على الأحداث الاجتماعية، وقد اُستخدم مهرج البلاط والمضحك في العصور الوسطى كـضمير للملك”(ص 264).
ليس منصفًا أن نضع اللوم كله في قصور الأداء على الممثل اليمني وحده، فهناك عوامل أخرى تساهم في تدني الأداء وفجاجته، مثل المخرج الذي لا يضبط أداء الممثلين، والسيناريو الركيك الذي يخلو من رسم جيد للشخصيات، والجهة المنتجة التي تشترط الكوميديا دون تبصر بقواعدها وأصولها، فإنتاج مسلسل كوميدي ليس بسهولة إنتاج مسرحية كوميدية مرتجلة في مدرسة ثانوية.
ختامًا، يمكن للممثل اليمني أن يختلق الأعذار والمبررات لينجو من اللوم، وبعضها صحيح بكل تأكيد، ولكن هذا لا يُعفيه من أن يشتغل على نفسه، ويتدرب ويُنمّي موهبته يوميًّا، وأن يقرأ ويثقف نفسه، ويشاهد ويدرس الأعمال الدرامية التي ترتقي بذائقته الفنية.
*كاتب وروائي يمني.
تعليقات