عبدالله الصعفاني*
حتى لا أكون في مناسبة أعياد الثورة اليمنية شديد الشبه بالباكين في صالة عرس، ثمة من الذكريات الشخصية ما يجعلني أقف إجلالاً واحترامًا للثورة اليمنية ورعيلها الأوائل العظماء.
وهنا لن أكون (شاهدًا على العصر) وإنما (شاهدٌ على النفس) ضمن جماهير ما تزال تحفظ للثورة اليمنية فضائل جديرة بالذكر والشكر، ومحفوفة بالاحترام والتقدير العظيمين.
* وإذا كان أحدنا من مواليد العقدين الأول والثاني للثورة اليمنية، فلا بد أنه عاش محطات من الآمال الواقعية لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد، أو مشدود إلى إلغاء الذاكرة.
* تعلَّمنا، وتعلم كثيرون ممن نعرف ومَن لا نعرف تحت علم الثورة اليمنية إلى المستوى الذي كتبه الله لنا، وكانت وسائل المعرفة ومناخات تنمية الوعي متعددة ومتنوعة.. كانت من الغزارة بحيث تكفي مع شيء من مجاهدة النفس الأمارة بالسوء لأنْ نكون بلد الحكمة والإيمان فعلاً، ويكون بالإمكان أفضل مما يكون، وما قد كان..!
شاهد على النفس
في منتصف السبعينيات غادرتُ قريتي ومسقط رأسي طفلاً محمولاً على ظهر إحدى الأمهات الفاضلات إلى طريق الاسفلت الموصل إلى العاصمة التهامية الحديدة بعد سنين من احتباسات ليس فيها فرصة للعلاج من ورم في قدمي بدأ بشوكة مسمومة.. ولا طريق سوى للأقدام.. وكان الصف الرابع الابتدائي سقفًا للتعليم في الريف الصعفاني وأرياف أخرى كثيرة.. لكن أجيالاً متلاحقة في الريف اليمني عمومًا جاءتهم الطرق والمدارس والمراكز الصحية إلى مناطقهم القصية من الريف اليمني.
* أثناء الدراسة الابتدائية حصلتُ على وظيفة بالشهادة الابتدائية، ليس بواسطة ولا عناء، وإنما بسهولة شرب الماء.
وأثناء الدراسة كنت أحصل على وجبة مجانية محسَّنة كل يوم، وعندما تقدمتُ بطلب الحصول على وظيفة تم قبولي مباشرة.
بل إن مرفق عملي بالحديدة صرف لي بدل سفر إلى العاصمة صنعاء، حتى أرتّب أنا وبعض زملائي أوضاعنا الوظيفية ومعاشاتنا، على أساس أننا صِرنا من حمَلة الإعدادية.
إنه زمن تنمية الآمال الواقعية للأجيال الجديدة، وأتذكر بعد أن أنهيت خدمة التجنيد الإلزامي في دائرة التوجيه المعنوي بصنعاء وتسجيلي أول بوادر الفضول الصحفي أن الأستاذ المرحوم محمد ردمان الزرقة كان يعرض عليَّ بين وقت وآخر موضوع التثبيت بمؤسسة الثورة للصحافة، وأنا على الطريقة العراقية (أتدلل..)
يومها حدثني زميلي مطهر الأشموري أنه قدم لطلب درجة وظيفية في ثلاث جهات، وأن الجهات الثلاث وافقت فاختار مؤسسة الثورة على البنك المركزي وشركة الخطوط الجوية اليمنية.. وما يزال الرجل حيًّا يرزق، ويشهد.
* تحت علم الثورة اليمنية الأم
تعرفت على بلدان كثيرة في هذا العالم، وخلال تلك العقود كانت أهداف الثورة اليمنية تحاول أن تسرع الخطى مختزلة أهدافها في تجاوز عقبات ثالوث الجهل والفقر والمرض.. لكن لصوص الداخل وحاقدي الخارج كانوا أيضًا يستحضرون منطق التوحش الإنساني وغريزة الأطماع وبؤر الكيد والتخندق الجهوي، ينخرون بمتواليات الفساد جسد بلدهم في أثواب كثيرة رصدتها عبقرية البردوني في:
“فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
وغزاة لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري… إلخ”.
* في عهد الثورة سافرت إلى دول كثيرة، وبالمقابل شاهدتُ اليمن في عيون آخرين لم تعد في نظرهم ذلك المجهول، حتى وما زلت أحمل في حلقي غصة وأنا أسمع في مطار مدريد شابًّا إسبانيًّا يقول:
أنتم من اليمن.. أنا ذاهب إلى هناك مع خطيبتي لأنني أعشق المغامرة في غمزة منه إلى حوادث خطف الأجانب في اليمن.
* ولا ريب أن كلًّا منكم يحتفظ في ذاكرة وفائه ما يوجب الاحتفال والاحترام بين يدي ثورة إنسانية هيأت لِطرد المستعمر البريطاني بعد عام، وحققت هدف الوحدة، وحاولت إحداث تغييرات وسط طريق لم يكن مفروشًا بالورود، وإنما طريق من المؤامرات المحلية والخارجية ليقف كل متأمل على معنى كيف أن أيادي الفساد والعبث والاستئثار بالسلطة والثروة يجعلون الثورة تأكل أبناءها بأيدي بعض أبنائها.
* انتصرت الثورة.. تلعثمت.. أصابت.. أخطأت.. ولكن لم تكن محطات النجاح والإخفاق إلا نحن.. وكل ذلك لا يجوز أن يحجُب عنّا مجال رؤية ثورة سبتمبر العظيمة وفقًا للظروف الموضوعية التي أحاطت بها.
لم يكن ثوار ثورة 26 سبتمبر الأوائل ملائكة، وإنما تنطبق عليهم سنة الأخطاء البشرية.
* وثورة إنسانية بذلك الحجم والتأثير الذي هزمته أيادي الفساد والعبث لا بد وأن تجد لها من الخصوم من يطعن وينكر ويستأثر، فيكون بيننا من يرمي الثورة بأخطائه على امتداد الساحة اليمنية.
* وفي حلول عيد الثورة العظيم لا يجوز أن نحملها حصاد أوزارنا وجشعنا، وإنما نقف احترامًا لعظمائها وروعة أهدافها الوطنية والإنسانية التي تعثَّرت بنا وليس برعيلٍ أول قدّم ما عليه، وأيّ هجوم عليها ليس سوى دليل على حيويتها وتوقدها، لأن الهجوم لا يوجه إلى كيان ميت، وإنما إلى ما هو حيّ.
* انتصرت الثورة الأم.. وبعدها حدث ما حدث من وصاية واحتراب، وما يزال يحدث، ولكن ستبقى هذه الثورة الجزء العظيم من تاريخنا، وهي جديرة بأن نضيف إلى تاريخها كلمات وألحان وأعمال ومواقف جديرة بالتسجيل.
لقد كانت الثورة الأم من صنع الجماهير، ولصالح الجماهير.. ولذلك ستبقى البوصلة التي تكشف حجم انحدارٍ يدعونا لِتَذكُّر كم ودّعنا من أسماء ارتبطت بهم ثورة سبتمبر.
*إن على كل من يصل إلى أيّ كرسي للسلطة إدراك أن الدنيا لا تدوم لأحد، وأن التاريخ عندما يسجل لا يرحم، وأن من المصلحة العامة لليمن (ناسًا وتاريخًا وجغرافيا وعمارًا) إدراك ما يحيط بنا، وقد حولنا بلدنا الموحد إلى شذر، محوِّلين أهداف الثورة العظيمة من أهداف وطنية وإنسانية عادلة إلى مجرد ذكريات غير قادرة على استلهام أو احترام تاريخ رجال تحلّوا بالشجاعة ونكران الذات، وصار على أبنائهم وأحفادهم أن يعودوا إلى الحوار والسلام وفي عيونهم وقلوبهم إرادة تبديل وجه اليمن الشاحب، منطلقين من جذوة شعراء وملهمين طالما استنفروا قشعريرة الإبداع كما هو حال:
(إني رفعتك فوق رأسي راية وأمنية..
وحملت صوتك في ضميري غاية وأغنية..
ونقشت من عينيك مجدًا خالدًا في التضحية..
في الثورة الشماء في أيلول شمس الحرية..)
كل عام واليمن بخير..
*كاتب يمني
تعليقات