جيمس زغبي*
سافرت هذا الأسبوع إلى شيكاجو لحضور اجتماع عن حملات جيسي جاكسون الرئاسية التاريخية في عامي 1984 و1988، ودُعيت للتحدث عن المساهمات الفريدة التي قدمها جاكسون في معترك جدل السياسة الخارجية الأميركية.
وجاكسون كان مميزًا، ليس لأنه كان مرشحًا أسود للرئاسة فحسب، لكن بسبب وجهة نظره حول العالم ودور الولايات المتحدة العالمي.
نشأ جاكسون خلال فترة تغير فيها وعي الأميركيين السود بشدة، فقد أدت الاحتجاجات الجماهيرية والتنظيم السياسي لحركة الحقوق المدنية إلى إصدار تشريعات تعزز الحقوق المدنية، وتوفير الإسكان دون تمييز، وحقوق التصويت، واستغلت حملات جاكسون هذه النجاحات وتعزيزها بالتركيز على تسجيل الناخبين وحشدهم. وهدفه في عام 1984 الذي تمثل في تعزيز عدد الناخبين السود بشدة في مدن الجنوب والشمال، وضع الأساس لتعزيز طموحات المرشحين السياسيين السود.
ففي غضون بضع سنوات، أثمر عمله في صورة فوز مرشحين سود في سباقات مهمة في نيويورك ونيوجيرسي وأوهايو وفيرجينيا، وأثمر أيضًا في صورة فوز «الديمقراطيين» بستة مقاعد في مجلس الشيوخ في الولايات الجنوبية، مما أدى إلى انتقال الهيمنة في مجلس الشيوخ في عام 1987 إلى «الديمقراطيين».
ويرجع الفضل في هذه النجاحات إلى حد كبير إلى زيادة إقبال السود على المشاركة في الانتخابات، وكان دور جاكسون في صياغة جدالات السياسة الخارجية مهمًّا بالدرجة نفسها.
وأوكد أنه يجب فهم جاكسون في سياق عصره، فقد ساعدت الحرب الباردة في صياغة تفكير كثيرين من الأميركيين السود.
فأولاً، أودت حرب فيتنام بحياة عدد غير متناسب من الرجال السود الفقراء ممن كانوا أقل قدرة من الرجال البيض الأكثر ثراء على تأجيل الخدمة العسكرية، وحولت الحرب الانتباه السياسي واستنزفت الموارد التي كان من الممكن ضخها في تنفيذ برامج الحقوق المدنية ومكافحة الفقر التي طمحت الحركة المدنية لتحقيقها، وصاغ تفكير هذه الحقبة أيضًا نضالات «التحرير الوطني» المناهضة للاستعمار في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، وظهور حركة عدم الانحياز، وأثرت هذه التطورات الدولية على تفكير الناشطين والمثقفين السود الشباب الذين ربطوا نضالهم ضد القمع العنصري في الداخل بالحركات المناهضة للإمبريالية التي تناضل من أجل الحرية في الخارج.
وتجلى استيقاظ وعي العالم في حركة هوية ثقافية جديدة تضمنت احتضان الجذور والتراث الأفريقي، وظل بعض القادة السود يركزون بشكل ضيق على مخاوف الحقوق المدنية المحلية، وجنح آخرون بقوة نحو النزعة القومية الثقافية والتماهي مع النضالات ضد الاستعمار.
واتخذ جاكسون مسارًا مختلفًا، سعيًا وراء تغيير الثقافة السياسية للبلاد، وفقد مزج على نحو فريد بين رافدين تمثلاً في ظهور وعي عالمي جديد في الخطاب السائد مع ربطه بمخاوف الحقوق المدنية في الداخل.
وبعد عقد ونصف فقط من الانتقاد الشديد الذي واجهه مارتن لوثر كينج بسبب انتقاده لحرب فيتنام، اجتمع جاكسون وزعماء مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية الذي أسسه «كينج» وكان يتولى رئاسته، مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في بيروت، وشجبوا سياسة «عدم حديث» الولايات المتحدة مع القيادة الفلسطينية.
وكان لهم من السلطة الأخلاقية ما يسمح لهم باستهجان سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتمييز ضد الكاثوليك في أيرلندا الشمالية، ودعم الولايات المتحدة آنذاك للأنظمة العسكرية القمعية في أميركا اللاتينية.
ومضى جاكسون قدمًا بربطه الأولويات الخاطئة للسياسة الخارجية الأميركية بالاحتياجات المحلية التي يتم التقاعس عنها والتغيرات التي تحدث في العالم. فقد قيد معظم «الديمقراطيين» مناقشات سياستهم الخارجية بمواقف تجاه الاتحاد السوفييتي الذين كانوا يرونه (شريرًا)، وحلف شمال الأطلسي (طيب)، أو ساروا في ركاب «الجمهوريين» في تناولهم لقضايا النفقات الأمنية والعسكرية، لكن كان لجاكسون وجهة نظر مختلفة تجاه الولايات المتحدة، وكان دور وجهة النظر هذه أكثر اتساعًا في العالم، وتوجه إلى أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا، متحديًا الأعراف المعتادة، داعيًا إلى تعزيز السلام، وتفاوض على إطلاق سراح سجناء، ودعا إلى إشاعة حسن النوايا.
وأدرك أن الأمن لا يكفله عدد أكبر من القنابل، بل العمل على رفع الظلم وتقليص الحرمان.
وفي القاهرة أو الكويت أو القدس، كان يبدو كأنه في موطنه كشأن وجوده في شيكاجو أو منطقة أبالاتشيا.. ولإدراكه أن الغالبية العظمى من الناس في العالم ليسوا في رخاء البيض الذكور، ولا يتحدثون الإنجليزية، دعا جاكسون إلى سياسة خارجية جديدة تعترف بإنسانية واحتياجات الجميع. وطوَّر مبادئ احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، ووضع حدًّا للمعايير المزدوجة، ودعم حق تقرير المصير للشعوب المضطهدة والمستعمرة، والاستثمار في التنمية الاقتصادية والبشرية.
وفي كل أعماله، لم يستخدم قط أيّ نبرة مرارة أو غضب، بل قدم التزامًا من حيث المبدأ بالعدالة والسلام، وجعل هذا الصمود الأخلاقي والوعي العالمي مساهمة جيسي جاكسون فريدة من نوعها، وما زالت كذلك.
*رئيس المعهد الأميركي العربي – واشنطن
تعليقات