Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

في عام 2004 وصل الصحافي المصري سمير جريس إلى اليمن ضمن الوفد المرافق لجونتر جراس، وشكلت هذه الزيارة لاحقًا مدخلًا لتأليفه كتاب “جونتر جراس ومواجهة ماضٍ لا يمضي”، الذي هو تأملات في حياته وأعماله، وإلقاءٌ للضوء على علاقته بالعرب، وصدر الكتاب عام 2016، أي بعد أشهر من وفاة جونتر جراس عام (2015)، ثم في طبعة ثانية صدرت عن مؤسسة هنداوي عام 2023، وهي التي بين أيدينا، بغلاف يحمل صورة شخصية لجونتر جراس تظهره بشاربه الكث، وفي فمه الغليون لكن بدون أدخنة تتصاعد منه، ربما استجابة للأطباء الذين منعوه من التدخين، فاكتفى بِعَضِّه كعادة لا يقدر على التخلص منها.

جميع الأطفال في سن الثالثة يستخدمون أسنانهم سلاحًا لإثبات قوتهم، ثم بعد بضعة أعوام يكفون عن العض، لكن بالنسبة لجونتر جراس فإنه لم يكف أبدًا عن العض، واستخدم أسنان آلته الكاتبة الأوليفتي بديلًا عن أسنانه، وعاش حياته كلها عضاضًا مرعبًا، وتركت عضاته آثارها على جلود المعضوضين، فهو بهذا المعنى شبيه ببطل روايته “الطبل الصفيح” القزم أوسكار، الذي توقف عن النمو عندما بلغ عمره ثلاث سنوات.

إذا كان جابرييل جارسيا ماركيز هو رائد تيار الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية بروايته الخالدة “مئة عام من العزلة” التي صدرت عام 1967، فإن جونتر جراس هو رائد تيار الواقعية السحرية في الأدب الأوروبي، بروايته “الطبل الصفيح” التي صدرت عام 1959، أيّ أنه سبق ماركيز بثماني سنوات تقريبًا، وقد صرح ماركيز أنه ما كان له أن يكتب تحفته الأدبية الخالدة لولا اطلاعه على رواية “الطبل الصفيح” لجونتر جراس.

الجدير بالذكر أن مدرسة الواقعية السحرية نشأت أولًا في ألمانيا، وتحديدًا في مجال الفن التشكيلي، ثم انتقلت هذه الرؤية الفنية وتقنياتها إلى الأنواع الفنية الأخرى، ومنها الرواية، وأتت “الطبل الصفيح” تطبيقًا عبقريًا للواقعية السحرية، بنكهة أوروبية خالصة، ولم تدانيها حتى اليوم أية رواية أتت بعدها، لا من الروائيين الأوروبيين المعاصرين، ولا من جونتر جراس نفسه.

ملازمة سمير جريس لجونتر جراس أثناء زيارته لليمن عام 2004، منحه أفضلية على غيره من المثقفين العرب لتأليف كتاب عنه، بالإضافة إلى إجادته اللغة الألمانية ومعرفته بالمجتمع الألماني وثقافته.

يتتبع سمير جريس حياة جونتر جراس منذ ميلاده عام 1927 وحتى وفاته في 2015، مستعرضًا أهم المحطات في حياته، في مقالات قصيرة مكثفة تُقدم الفائدة والعبرة للقارئ.

وهذا النمط من الكتب شائع في الغرب عن الشخصيات العامة التي لها بصمات في مجتمعاتها، ولا نجد هذا التقليد شائعًا في الثقافة العربية إلا نادرًا، ولعل السبب يعود إلى قلة العائد المادي منها.

أكثر الفصول أهمية بالنسبة لي كيمني، هو الفصل المعنون بـ”عاشق قصائد الطين اليمنية”، فهذا الأديب العبقري الذي ترك أثرًا هائلًا على الأدب العالمي في القرن العشرين لم يلفت نظره الأدب العربي، الذي قرأ منه شذرات متفرقة من روايات نجيب محفوظ وأشعار أدونيس ومحمود درويش، ففي رأيه – وهو محق – أن ما أنتجه الأدباء العرب في القرن العشرين ليس سوى صدى للأدب الأوروبي، فما هم إلا تلاميذٌ في صفوف الحداثة الأوروبية، وهي الحداثة التي كان جونتر جراس يشعر في قرارة نفسه بالقرف منها، أو على الأقل قد تشبع بها فلم يعد هناك ما يدهشه في كتابات هؤلاء الطلبة الذين اتبعوا (المنهج) الأوروبي لينجحوا في امتحان الحداثة.

لكن الذي أثار اهتمامه إلى أقصى درجة هو فن العمارة اليمني، في صنعاء القديمة، وفي مدينة شبام الحضرمية.. ينقل سمير جريس على لسان جونتر جراس:

“(لقد وقعت في غرام هذا البلد) لم يكن جونتر جراس يترك فرصة خلال الرحلة التي رافَقته فيها صحفيا إلى اليمن في يناير ٢٠٠٤م دون أن يردد هذه العبارة؛ ليس أمام أعضاء الوفد فحسب، بل في حواراته العديدة التي أدلى بها للصحف ومحطات التلفزيون الألمانية والنمساوية والسويسرية. كان حامل نوبل يبدي إعجابه بطبقات الحضارة المتراكمة في اليمن السعيد، وبالطبيعة البكر في جزيرة سقطرى، وكان يتحدث حديث العاشقين عن العمارة الطينية القديمة في صنعاء وشبام التي أطلق عليها «قصائد من طين». كل من رافقه في رحلتيه إلى اليمن (الأولى في ديسمبر ٢٠٠٢م والثانية في يناير ٢٠٠٤م)، كان يلاحظ على الفور أن الرجل صادق في حبه ومتيم في عشقه”ص91.

الجدير بالذكر أن جونتر جراس أعلن عن تبرعه بمبلغ عشرة آلاف يورو لتأسيس مدرسة لتعليم العمارة الطينية في حضرموت، والسفير الأمريكي الذي كان حاضرًا وقت هذا الإعلان انتهز المناسبة وأعلن مساهمة بلاده بمبلغ ثمانية عشر ألف دولار لهذه المدرسة، وطبعًا استلم المسؤولون اليمنيون تلك المبالغ، ولكن كالعادة تبخرت في نفق الفساد اليمني العريق، ولم يسمع أحد شيئا عن تلك المدرسة:

“على كل، لم يبدُ جراس منبهرا بالشعر العربي أو بأدب محفوظ، أو بأعمال أي كاتب عربي آخر قدَر انبهاره بالعمارة اليمنية، فماذا حققت الزيارة في هذا المجال؟ ماذا حدث للمدرسة وقسم العمارة الطينية بوادي حضرموت؟ هل خرجت أجيالاً ساعدت في الحفاظ على هذا التراث المعماري الجميل؟ آنذاك وعد صاحب ثلاثية دانتسج بالحضور مرة أخرى إلى اليمن بعد أن يبدأ التدريس في مدرسة العمارة الطينية. وهو ما لم يحدث؛ لأن هذه المدرسة لم تفتتح حتى الآن! هذا ما أكده لي الروائي اليمني علي المقري الذي استقصى الأمر من أصدقائه في وادي حضرموت”ص97.

إن المرء ليتساءل ما بال اليمنيين يكرهون بلادهم إلى هذه الدرجة؟؟ فهذا رجل أجنبي وقع في غرام جمال الطبيعة اليمنية، وأذهله فن العمارة اليمني، فأعطى تكرمًا منه مبلغًا لتعليم جيل جديد من اليمنيين فنون العمارة الطينية، لعل وعسى يهب أثرياء اليمن وبيوتاتها التجارية الكبيرة لدعم مبادرته، التي هي في الأصل من أجلهم ومن أجل بلادهم، وكنوع من التكريم المعنوي لأجدادهم البنائين المهرة، ولكن لا حياة لمن تنادي، ولعلهم لا يتعاطفون مطلقًا مع تراث بلادهم المعماري الأصيل، ويرونه كومة من قذارة، لو ترك الأمر بأيديهم لأزالوها من على وجه الأرض، واستبدلوها بعمارات إسمنتية شاهقة الارتفاع تدر عليهم أرباحًا فوق أرباحهم، وترفع الأرقام في أرصدتهم البنكية.

في موضع آخر من الكتاب يسأل سمير جريس الروائي العظيم جونتر جراس عن رأيه في اليمن؟ فكانت هذه إجابته:

“هذه أجمل رحلات حياتي”.

هذا الرجل الذي جاب العالم طولاً وعرضًا، وزار عشرات البلدان، يقرر في ختام رحلته الدنيوية أن اليمن هي أجمل بلد في الدنيا.

فيا ترى متى يدرك اليمني هذه الحقيقة؟ ومتى يُقدِّر اليمني بلده حق قدرها فيكون بارًّا بها ومتفانيًا في عشقها؟ هذا ما حاول جونتر جراس أن ينبهنا إليه، ولكن النفوس الصغيرة ذات الهمم الساقطة لا ترى أبعد من أنفها.

يتطرق الكتاب إلى قضايا أخرى كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها كلها، لعل أهمها المعركة القضائية التي نشبت بين جونتر جراس واليمين الألماني المحافظ في الستينيات، وهي معركة ساهمت في تعزيز حرية الفكر والأدب في ألمانيا:

“ما الذي يجعل الكتب والكُتَّاب خطرًا على الدولة والكنيسة والمؤسسات الإعلامية والحزبية إلى هذا الحد؟ ويجيب قائلًا إنه يكفي أن يقدم الكاتب بأدبه الدليل على أن الحقيقة ليست واحدة”ص73.

رغم أن الكتاب يقع في مئة وخمسين صفحة فقط، ولكنه يقدم صورة واضحة عن واحد من أعظم أدباء القرن العشرين، ذلك الأديب الذي بدا تاريخه الشخصي متقاطعًا في مسارات كثيرة – على نحو لا يصدق- مع الأحداث العالمية في تلك الحقبة.. وكأن منحه جائزة نوبل للأدب في آخر عام من أعوام القرن العشرين (1999) كان بالمصادفة البحتة إشارة قدرية أن ذلك القرن هو قرن ألمانيا التي لم يسعدها الحظ بالانتصار في أيّ حرب من حروبها الهائلة.

* روائي وكاتب يمني.

 

   
 
إعلان

تعليقات