ذات صباح وأنا منطلق إلى الكلية حملت معي قنينة معطر جو، ولجت قاعة المحاضرات التي سبقني إليها الدكتور المحاضر ولم أهتم بالتوبيخ والتقريع الذي وجَّهه لي، وسارعتُ برش الجو بالرائحة المعطرة.
كانت جثتي التي أستخدمها منذ فترة قصيرة قد بدأت بالتعفن وتفوح منها رائحة الجيفة، بسبب الحر الشديد هذا الصيف، وكان عليّ أن أحمي سري، فلا يجب أن يعرف أحد أني شخص ميت، وأني كلما تحللت الجثة التي أستخدمها قمت باستبدالها لأستطيع السير بها في الطرقات، والنظر بتحدٍّ إلى عيون المارة الذين يحدقون فيّ بغرابة، والبصق على أرصفة الحياة المغشوشة.
لا أعلم لِمَ ما زلتُ أصر على ادعاء الحياة، ربما لأن الموت ليس بحال أفضل، إذ ما زال يروق لي التسكع هنا إلى أن أجد سببًا لئلا أفعل، ولذلك سأظل معكم.
استمر ذلك الدكتور بتقريعي كلما تأخرت، واستمررت بدوري بالتأخر بسبب الجثة العفنة ذات المفاصل المفككة التي أحملها، حتى جاء اليوم الذي تساقط فيه لحمها أمام الناس وفقدت قدرتي على ادعاء الحياة بها.
بعدها اكتشفت أن العثور على جسد يافع أستدينه لبعض الوقت أصبح صعبًا جدًّا، فمع ازدياد الأوضاع الأمنية والاقتصادية سوءًا تمزقت الكثير من الأجساد الشابة، وهزلت باقي الأجساد حتى باتت العدمية المادية التي أنا عليها خيارًا أفضل من اقتنائها.
ففي غرفة ثلاجة الموتى التي أعود إليها مكرهًا كلما فقدت جسدًا من الأجساد التي ألبسها، والتي تجمدت فيها بقايا آخر جسد كنت فيه، كانت هناك جثة امرأة مزقها العار، وأشلاء طفل سرقوا أعضاءه، وكومة عظام يجمعها جلد مجعد لعجوز يبدو أنها تمسكت بالحياة أكثر مني، ولا فائدة من كل أولئك بالطبع، ولم تكن غرف المستشفى في الأعلى أكثر جدوى، فمن علقوا بها كانت أجسادهم أقل نفعًا من أي جسد كنت فيه، كما لم يعد يروق لي مطلقًا الذهاب إلى الثكنات العسكرية وانتظار لحظة غفلة من روح متخاذلة تتسرب خارج الجسد الذي تسكنه من ثقب عارض يمكن رتقه، لأن تلك الأجساد محكومة بالتعرض لكافة عوامل التعرية والموت باستمرار، وبالتالي أصبح إيجاد جسد نافع أستعيره عملًا بالغ الصعوبة، ولم أنفك عن لوم نفسي لأني لم أبدأ بذلك البحث قبل أن أفقد آخر جسد سكنت فيه.
على كل حال قررت أن أذهب إلى أكثر مكان يروق لي، المكان الذي تتزاحم فيه الأجساد الشابة الحيوية التي أحسدها وأتمنى لو أمتلك إحداها، ولن أجد وفرة بتلك الأجساد أكثر من الجامعة الحكومية مترامية الأطراف والتي تضم آلاف الطلاب، لكن الوقت أصبح متأخرًا ولن أجد هناك إلا رجالًا بالزّي العسكري، المتسكعين بلا جدوى في ذلك المكان، وربما عليّ الذهاب إلى سوق المدينة، فقد تصطدم دراجة نارية بمؤخرة امرأة لا تنفك عن التجول في الطرقات فتفقد وعيها وأجد أنا بالتالي فرصة لاحتلالها حتى حين، أو يتشاجر صعلوك وآخر على ربطة قات فتنطلق رصاصة غادرة أتسلل من ثقبها في الجسد الذي ستعبره أو تستقر فيه، لا فرق لديّ.
ولأني قد وصلت إلى أسوار الجامعة لم أمنع نفسي من إلقاء نظرة على المباني الفارغة من ضجيج الطلاب، والممرات التي تهرول فيها الريح بصفير يطربني، والمقاعد الخشبية التي تجمدت من البرد مثلي.
لكني دهشت لوجود مجموعات صغيرة من الشباب يتوزعون هنا وهناك، مراهقين يركضون بحمق خلف كرة في الملعب الأخضر، وفتيات يضعن قبعات التخرج ويحملن باقات الورد يتموضعن لتُلتقط لهن الصور، وفتية متأنقين في بزات أنيقة يزاحمونهنّ على عدسات المصورين، حمق وهراء ما كنت لأترفع عنه لو أني مكان أحدهم، خلف الكرة أو أمام الكاميرا، المهم أن أكون حيًّا أكثر مما أنا عليه الآن.
زوبعة ريح مفاجئة باغتتني وشدتني إلى الجهة الغربية بعيدًا عنهم، طاوعتها ولم أقاومها لأني أعلم أن قدرًا ما هناك ينتظرني و.. رأيتها، فاتنتي، كانت تقف بين الحشائش التي تحتضن ساقيها بود، توشك أن تمتزج بالهواء وبخيوط الشمس الغاربة التي تلاحقها بعينيها، تلامس الأزهار البيضاء بأناملها القطنية، وترنم لحنًا يعصف بالحنين، تعانق بشغف تلك الطبيعة ويرتجف قلبها لهفة لشيء لا تعلمه، لم يشغلني جسدها الفاتن المتمايل مع الأغصان، بقدر ما شغلتني روحها العذبة، والتي كان يمكن أن تمسك بي لولا أني معتم جدًّا وهي تنفر من العتمة، وحددت هدفي أخيرًا، لن أبحث عن جسد عابر أرتديه لأيام أو أشهر، أريد جسدًا أبديًّا يبقيني قربها.
لكن وبتلك اللحظة سحبت روحي لمسة دافئة على الجسد البارد الذي خلفته أول مرة، وسمعت نهنهة بكاء شخص متعب، بدا كما لو أنه مستسلم لوداع لا لقاء بعده، ألقيتُ نظرة أخيرة على المكان، أريد رؤية فاتنتي لعلي أحفظ شيئًا منها يدلني عليها حين أعود، لكنها كانت قد ذهبت، وعادت اللمسات الدافئة أكثر إلحاحًا، وصارت روحي تسحب بسرعة أكبر إلى جوار ذلك الجسد، وشعرت بقبلة لزجة أعلى جبيني ودمعات حارة تحرق الجلد الرمادي الذي كان يشكل جزءًا مني، ورأيتها أخيرًا.. باكيتي، وتذكرتها، تذكرتُ دموعها التي لم تجف، وارتجاف يدها المتيبسة وهي تتسول المال في الطرقات الشحيحة، كي تخرج جسدي من صندوق الثلج الذي أُحتجز فيه، وتزرعه في أرض قريبة منها، فتسقيها كل يوم كما لو أني شجرة سأنبت من جديد وأعود إليها.
تذكرت تجاعيد وجهها المحروق من الشمس، والورقة المغلفة بحرص التي تستجدي بها القلوب الرحيمة، وفيها صورة جسد مثقوب الصدر مُلقىً على الأرض، تذكرت ذلك الجسد أيضًا، أول جسد سكنته، أول جسد أحببته، وأول جسد خانني وتخلى عني، تذكرت ذلك الفتى الجامعي المتفاخر رغم تواضع نشأته، عرفت أخيرًا لِمَ ظللتُ عالقًا في أروقة الكليات وشغوفًا بالأجساد الشابة التي تتردد عليها.
آه انتهى ذلك الشغف! وجدت أمي بعد جهد جهيد طريقة لإعادتي إليها، وها هي تودع جسدي الأول قبل أن يغرسوه في حفرة ضيقة على عمق متر وثمانين سنتيمتر، لا بأس إنها استراحة أعيد بها ترتيب ذاتي وأمهل الحياة لترتيب جسد جديد لي.
نافضًا عن نفسي عتمة القبر تسللت بين الشواهد، ما زال على الحياة أن تعطيني الكثير قبل أن أعتزلها إلى الأبد، وهناك فاتنة تضطرم شوقًا إليّ دون أن تدري.
* تسنيم المرواني – قصة نوهت عنها لجنة تحكيم جائزة الربادي (الدورة الثالثة).
تعليقات