وجدي الأهدل*
يُستخدم الحوار لإظهار المعالم النفسية والشعورية للشخصيات، والطباع الغالبة عليها،
ومستواها الفكري والعقلي. كذلك لإعطاء المعلومات للقارئ بطريقة فنية.. أي أن يخبر المؤلف القراء بالمعلومة على لسان إحدى شخصيات العمل وليس بلسان الراوي.
وينبغي أن يُراعي المؤلف عند كتابة الحوار المستوى التعليمي للشخصية، فلا يتحدث فلاح أمي عن أينشتاين ونظريته النسبية. وكذلك مراعاة المستوى الاجتماعي للشخصية، فالشخصية التي تنتمي لحيّ شعبي تتحدث بطريقة مختلفة عن الشخصية التي تعيش في منطقة راقية. وينبغي كذلك الانتباه إلى عمر الشخصية، فالشيخ الطاعن في السن يتحدث بطريقة مختلفة عن الفتى المراهق، وكذلك الأطفال الذين لا نتوقع منهم أن يخوضوا حوارًا فلسفيًّا أكبر من عمرهم.
وفي جميع الحالات عند إقامة حوار بين شخصيتين، فإن المؤلف المتمكن سوف يخلق صوتًا خاصًّا لكلّ منهما، أي يجعل لكل شخصية أسلوبها الخاص في الحديث، ومعجمها اللغوي الخاص بها فتستخدم مفردات تدل على مهنتها أو اهتماماتها أو الطبع الغالب على شخصيتها.
وينبغي استخدام تقنية الحوار بجمل قصيرة، وتجنب الجمل الطويلة، فإن مما يبعث على الملل أن تتفوه الشخصية بجملة تمتد لصفحة أو صفحتين ثم يأتي دور الشخصية الأخرى للحديث!
ولا بد من الإشارة إلى أن تقنية الحوار هي الأكثر مراوغة على الإطلاق، وهي نقطة ضعف لمن لا يُحسن استخدامها، إذ لا ينجو من مطباتها إلا القلة من عباقرة الأدب.
مؤلفون كُثر يتهاونون بالقيمة الاستراتيجية للحوار، ولا نجدهم يقلقون بشأنه! الحق أن الأمر عكس ذلك تمامًا، إذ ليس سهلاً أن تتكلم الشخصية بلسانها هي وليس بلسان المؤلف.
99% من الحوارات التي نجدها في المؤلفات الأدبية هي كلمات يضعها المؤلف في أفواه الشخصيات فيبدو الحوار ملفقًا، وكأنه مُدبلج بلهجة المؤلف، والشخصيات تحرك شفاهها وأصواتها الحقيقية لا تسمع.
معظم عباقرة الرواية، وعلى رأسهم غابرييل غارسيا ماركيز، يتجنبون كتابة الحوارات، إلا اضطرارًا وفي أضيق الحدود.
ومن المتفق عليه أن “الحوار” أداة قطع لتدفق السرد وزخم التشويق الدرامي. لذا على من يستخدمه التمتع بحساسية فائقة تشبه موهبة قراءة الأفكار لدى العرافين، بحيث يمكنه الوصول إلى الكلمات وما وراء الكلمات التي تقولها أو لم تقلها الشخصيات!
في الحياة الواقعية لدينا ازدواجية في أحاديثنا، فقد نثني على شيء نحن في داخلنا نمقته، ونسبة عالية من الحوارات بين البشر مزيفة ولا تعبّر عن مشاعرهم تمامًا؛ مراعاة لأصول اللياقة الاجتماعية.
إذا أهمل المؤلف هذا التمايزات اللغوية بين الشخصيات، وهي تمايزات سطحية على أية حال، ويمكن لروائي جيد الموهبة تنفيذها بمهارة، فيجب عليه أن يعوض هذا الإهمال بخلق تمايزات أكثر عمقًا تكشف روح الشخصية وسماتها الخاصة.. وهذه موهبة نادرة جدًّا، ذروة شاهقة في أعالي العبقرية لم يصل إليها إلا نفر محدود من عظماء الأدباء، لأن (الحوار) عندهم يتجاوز القشور إلى اللب مباشرة، ويسلط الضوء الساطع على أغوار النفوس.. فالجوهري في كلمات الشخصيات ليس التفاوت في استخدام المفردات أو تنوع اللهجات، ولكن الأسلوب التعبيري الذي قيلت به تلك الكلمات، النغمة التي نُقطت بها، والمعاني المضمرة المخبأة في نبرة الشخصيات.
من المشاكل المزمنة لمؤلفي الأدب باللغة العربية: هل يكتب “الحوار” بالفصحى أم بالعامية؟
من الأخطاء الفاقعة، مثلًا، أن يتكلم عامل بناء درس إلى الصف الثالث الابتدائي بالفصحى، وربما عنَّ للمؤلف جعله يسبُّ المقاول في لحظة غضب قائلًا: “خسئت”! الفجاجة هنا واضحة للعيان.
ومهما كان حبنا عظيمًا للغة العربية، فإن جعل شخص بالكاد يقرأ ويكتب، ينطق بالفصحى، أمرًا لا يحتمل، ويخالف أبسط قواعد الفن.
اللغة العربية تمتلك مخزونًا هائلًا من المفردات، ولكن عند كتابة الحوارات فإننا سنواجه سلسلة متفاقمة من التناقضات، وحينئذٍ لا مناص من الخضوع لشروط الفن، وبعضها يتعارض مع المفهوم السائد عن الفن الرفيع، وإنطاق الشخصيات بالكلمات التي تستخدمها حقًّا في الواقع.
هناك حل شهير: استخدام لغة وسطى بين الفصحى والعامية. وهذا هو الحل المعمول به في غالبية المؤلفات الأدبية العربية. ولكن الحقيقة المرة هي أننا كلما بالغنا بتفصيح “الحوار” خسرنا المزيد من الدرجات في مقياس الجمال الفني.
إذا بقينا نُدرج في الحوارات فقط تلك الكلمات المعترف بها شرعيًّا في المعاجم، فإن لغتنا العربية لن تتجدد، وسيدركها الركود، وكل راكد يتسمم ببطء ويموت.
الحوارات العامية، على نفورنا منها، هي الثغرة الحميدة التي يمكن أن تتدفق منها مفردات جديدة إلى لغتنا. وهي الطريقة الصحيحة ليساهم كل أديب بحصة في تعظيم ثروة اللغة العربية من المفردات.
والأكثر أهمية لنا نحن حملة الأقلام هو انتقاء مفردات عامية ذات دلالات اجتماعية أو نفسية تعجز المفردات الفصيحة عن التعبير عنها بدقة. وهذه حالة صادفتني مرارًا، وفي حالات قليلة جرؤتُ على نبذ المفردة الفصيحة واستبدالها بمفردة عامية مع الإشارة إلى معناها في الهامش، مثل كلمة “زِغْج” العامية التي تُستخدم في اليمن كشتيمة مقذعة.
كذلك يمكن إيراد كلمات أجنبية، من الألفاظ الشائعة على ألسنة الناس في حواراتهم اليومية، ولنا في القرآن الكريم أسوة حسنة، فقد وردت فيه ألفاظ مستعارة من الأمم المجاورة، فارسية ورومانية وحبشية وقبطية ويمنية قديمة، وكساها بدمغة عربية، فإذا هي على ألسنة العرب كالماء العذب، ولم يصل إلى أسماعنا قط أن أحدًا احتج على استخدامها في زمن النبوة.
هذه الحساسية المفرطة تجاه المفردات الأجنبية ظهرت في القرون اللاحقة، وكانت السبب، مع الأسف، في خلق الفجوة التي نعاني منها اليوم بين لغتنا اليومية واللغة التي نستخدمها في الأدب والصحافة ومناهج التعليم.
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات