صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الكمالي:
لم يكن معرض “هل تراني” الذي شهدته صالة متحف “بروكلين للطفولة” في نيويورك، الاثنين الماضي – الموافق 17 يوليو/ تموز، مجرد معرض، بل كان أكبر من ذلك بكثير؛ إذ استطاع أن يقدِّم قصصًا متنوعة لمبدعين يمنيين واعدين قبل أن يقدِّم أعمالهم، وكل قصة من تلك القصص كانت تروي حكاية بلد يتحدى الحرب، جمالاً وإبداعًا، من خلال الفن كرسالة يفهمها العالم جيدًا، وفي هذا السياق قدّم المعرض رسالة ثقيلة الوزن عكست خصوصية الهوية الثقافية والجمالية لبلد يرزح تحت وطأة حرب، لكنه ما زال يتحدث بـ لغة الفن!
شارك في المعرض التشكيلي الأول للفنون اليمنية “هل تراني” 30 فنانًا ومبدعًا من الأطفال والشباب اليمنيين، الذين عاصروا الحرب التي يشهدها بلدهم اليمن، وكان للحرب تأثير واضح في حياتهم وأعمالهم الفنية التي احتفى بها هذا المعرض.
سحر اللوذعي: تميَّز المعرض بتنوعه الجغرافي والفني والإبداعي.
يعد هذا المعرض المنبر الأول لمعظم الموهوبين من الشباب والأطفال اليمنيين المشاركين فيه، ويهدف إلى «إبراز مواهب أطفال وشباب اليمن الذين تم تهميشهم بفعل ظروف الحرب التي يمر بها البلد، وتشجيعهم ودعمهم لمواصلة إبداعهم من خلال استعراض قصصهم وآمالهم وتطلعاتهم التي تنقلها أعمالهم الفنية المتنوعة، بالإضافة إلى كونه خطوة ستسهم في تعزيز التواصل الثقافي والفني بين اليمن وبقية العالم”، بحسب منظِّمة المعرض مديرة مؤسسة قمرية للفنون، التشكيلية اليمنية، سحر حسن اللوذعي، في حديثها لـ”اليمني الأميركي».
وتُلفت اللوذعي إلى تميز المعرض «بتنوعه الجغرافي والفني والإبداعي، حيث تم تقديم 60 عملاً فنيًّا، بواقع عملين لكل مشارك من الموهوبين الذين ينحدرون من مختلف محافظات الجمهورية اليمنية، وتتراوح أعمارهم بين (7 – 19 عاما)».
لم تقتصر تلك الأعمال على مجال فني واحد، إذ شملت مجالات مختلفة، كالرسم، التصوير، كاليغرافي (فن كتابة الحروف)، مشغولات يدوية وتصاميم، فن رقمي، فن التوازن، واختراعات باستخدام مواد مُعاد تصنيعها، بالإضافة للخط العربي وغيرها، الأمر الذي أكسب المعرض ثراءً جماليًّا وثقافيًّا، عكَس الثراء والتنوع والجمال الذي يزخر به اليمن في مختلف الفنون والمجالات.
في ما يتعلق بتقييمها للنجاح الذي حققه المعرض، تؤكد اللوذعي أن «المعرض حقق نجاحًا لافتًا يمكن التماسه من خلال السعادة والحماس الذي خلقه في أرواح الأطفال والشباب المبدعين، والاهتمام الذي حظي به من قِبل العديد من المؤسسات الثقافية والإعلامية الأميركية واليمنية، والحضور اللافت من قِبل مسؤولين وشخصيات فنية وأكاديمية وازنة، وعلى رأسهم عمدة نيويورك، إريك ادامز، الذي شارك في افتتاحه، بالإضافة إلى نجاحه في بيع العديد من الأعمال بمبلغ ثلاثة آلاف دولار أميركي، سيتم إرساله لدعم وتشجيع الفنانين والموهوبين».
انطلاقة جديدة
«مشاركتي في معرض (هل تراني) تعني لي الكثير، كونها أول مشاركة لي في معرض فني، وجاءت في الوقت الذي كان الإحباط واليأس يحيطان بي، لتجدد لديّ روح الأمل والمثابرة والشغف والحماس للاستمرار في ممارسة الفن، وتعطيني شعورًا بأن ثمة من لا زال يهتم بآلامنا وأوجاعنا وتجاربنا كموهوبين في بلد أنهكته الحرب»، يقول أحد المشاركين في المعرض، المبدع في مجال التصميم عباس الناشري، متحدثًا لـ”اليمني الأميركي”.
قدّم المعرض صورة مصغرة للهوية والتراث اليمني.
ويوضح عباس أن «وصول معارك الحرب إلى الحي الذي يسكن فيه بمحافظة الحديدة، وما ترتب على ذلك من اضطراره وأسرته لخوض تجربة نزوح متعبة، واقتحامه سوق العمل في مهن عديدة… كل تلك الظروف التي عشتها كصاحب موهبة فنية، وفي وقت مبكر من العمر، كانت قد أرغمتني على التوقف لفترة طويلة عن ممارسة هوايتي الفنية في مجال التصميم، وكل ما يمت للفن بصلة.
ويضيف: «لولا شغفي الفني والدعم والتشجيع النفسي الذي حظيتُ به من أسرتي، لكنتُ فشلتُ في التغلب على تلك الظروف والمواصلة من جديد حتى اليوم الذي شاركتُ فيه أعمالي في معرض خارجي، لذا فإن مشاركتي في هذا المعرض تمثل انطلاقة جديدة».
بيوت تنزف
على عكس عباس، الذي عاش تجربة الحرب وجهًا لوجه في مدينته الحديدة، وحملت تصاميمه الكثير من المعاني لشاب يتطلع إلى مستقبل أفضل في بلد يتعافى من الجراح، ويأمل أبناؤه أن تتحقق فيه الأمنيات، كانت المبدعة في مجال الرسم، آيات صلاح، قد تمكنت من الخروج مع أسرتها من مدينة عدن في وقت مبكر من وصول المعارك إلى حيِّها، لكن المعاناة النفسية جراء ترك مدينتها وسط سعير الحرب، كانت أشد وطأة على روحها، وذلك ما يمكن استشفافه من لوحتها “بيوت تنزف” المشارَكة في المعرض.
وتروي آيات، لـ”اليمني الأميركي”، قصة لوحتها التي تُمثل مشهدًا قاتمًا لمنزل قديم لا يُرى منه شيء يدل على الحياة سوى الدماء النازفة من ردهة الباب المغلق، قائلة إن «اللوحة تُمثّل نظرتي من الخارج لوطني ومدينتي في ظل الحرب.. كنت أرى معاناتهم، وأشعر بها، ويحز في نفسي أن بيني وبينهم حاجزًا من العذاب، الذي ظل يؤرقني كثيرًا حتى الوقت الذي عُدت فيه إلى المدينة قبل ست سنين، لأشارك في تطبيع ما أمكن من الحياة، من خلال الفن».
مدير البيت اليمني للموسيقى والفنون: المعرض وفر مساحة أوسع لانتشار وتواجد الفن التشكيلي اليمني.
وتشير التشكيلية الواعدة آيات إلى أن لوحتها “بيوت تنزف” هي واحدة ضمن مجموعة من اللوحات التي تعمل عليها، وتعبّر عن تجربتها الذاتية، وفلسفتها في الحياة، وواقع المجتمع وما يمر به، وتعمل حاليًّا على استكمالها لترى تلك المجموعة التي تحمل اسم “الراحلون ثَلاثةَ عَشَر” النور قريبًا، وتشارك في معارض كثيرة في المستقبل، كما تتطلع.
مبتكر صغير
ضمن قصص النجاح التي زخر بها المعرض، يبرز المخترع محمد صالح يسلم، ينحدر من محافظة سقطرى، كنموذج ملهم لمبتكر صغير لم تمنعه الإعاقة التي يعانيها في أصابع يديه، من مواصلة شغفه في مجال الاختراع باستخدام مواد معادٌ تصنيعها على الرغم من مشقة المهنة في ظل انعدام الإمكانيات والأدوات اللازمة؛ الأمر الذي دفعه لابتكار آلة “مكبس يدوي” تمكنه من العمل بسلاسة، والتغلب على إعاقته، وكانت ضمن الأعمال المشاركة في المعرض.
بالإضافة إلى تحدي ظروف الحرب التي يمر بها اليمن، كما غيره من أقرانه الموهوبين، يحتاج “فن التوازن” الذي يحترفه المبدع اليمني مدين عبدالحميد (7 سنوات)، أصغر المشاركين في المعرض، إلى تحدي الجاذبية الأرضية أيضًا، وذلك ما يبرع به جيدًا البطل (مدين) الذي يطمح لأنْ تكون مشاركته في المعرض «بداية للانطلاق نحو العالمية ورفع علم بلدي عاليًا في كل المحافل الرياضية مستقبلاً».
مساحة أوسع وانطباع قوي
البيت اليمني للموسيقى والفنون، الذي يعد إحدى الجهات الراعية للمعرض، بالإضافة إلى عدة مؤسسات ثقافية وفنية أميركية، يؤكد رئيسه الفنان فؤاد الشرجبي، في حديث لـ”اليمني الأميركي”، الأهمية التي مثّلها إقامة المعرض للفن اليمني والموهوبين من أطفال وشباب اليمن، قائلاً: «المعرض وفر مساحة أوسع لانتشار وتواجد الفن التشكيلي اليمني في المحافل الدولية، ومن الطبيعي أن مثل هذه الأنشطة والمعارض ستخلق للمشاركين فرص التشبيك مع فنانين آخرين وجهات فنية ومنظمين في مختلف دول العالم».
ويضيف الشرجبي: «الفن لغة عالمية ورسالة إنسانية سامية، ومن خلاله يتعرف العالم على تاريخنا وهويتنا اليمنية الأصيلة، كما يتعرف العالم على معاناة أطفالنا في ظل الحرب العبثية وعدم الاستقرار».
البروفيسور آرشي راند: المعرض كان فرصة للتواصل الإنساني العميق.
الانطباع القوي الذي تركه المعرض لدى الزوار، يؤكده البروفيسور الأميركي الفنان آرشي راند، أستاذ الفنون في كلية بروكلين، في حديثه لـ”اليمني الأميركي”، قائلاً: «المعرض كان فرصة للتواصل الإنساني العميق، شعرنا بحماس وتفاؤل هؤلاء الفنانين الشباب، وأدركنا الوضع الكارثي الذي عاشوه خلال طفولتهم بسبب الحرب التي يجب أن تتوقف ليعم السلام والاستقرار في اليمن».
بجانب الأعمال الفنية التي قدّمها المعرض، تم عرض صور المبدعين المشاركين، وهم يرتدون ملابس شعبية تمثّل اللباس التقليدي للمحافظات اليمنية المختلفة، كما قدَّم للزوار مذاق “البن اليمني” الأصيل أثناء استمتاعهم بمشاهدة فيديو للقطات متنوعة من الجمال الطبيعي الساحر الذي تزخر به البيئة اليمنية، والنشاط الإنساني الفريد الذي يمتاز به المجتمع اليمني، الأمر الذي جعل المعرض، بحق، تجسيدًا مصغرًا وجميلاً للهُوية والتراث اليمني العريق، وفق متابعين.
تعليقات