عبدالله الصعفاني*
تفرحني كل خطوة حقيقية أو حتى كاذبة باتجاه السلام ووقف الحرب في اليمن.. لأن عقدين من الأزمات والحروب أضرت كثيرًا بالبشر، ولم تستثنِ الحجر.. والأدهى والأمرّ أنْ لا أحد يتأثر أو يستمع لأوجاع الإنسان أو آلام الزمان أو المكان.
* ويخطئ من يظن بأن الأماكن والمباني المتضررة بلا روح، أو أنه ليس للمباني التي هدمتها أو فصلتها الحرب حصة بلا لسان أو كرامة، وقد تعرضت للقصف أو حتى للهجر والإهمال.. لا فرق هنا بين مباني الحجر ومباني الإسمنت، وبيوت القش وخيام ما تبقى من مضارب بني عبس.
* قرى الريف والحضر، وشوارع المدن وأزقتها تتكلم وتتألم، وعند معاقبتها بالإهمال تردد مع وردة الجزائرية:
“إذا كنت مخاصم للبستاني إيش ذنب الورد”
ولعل كثيرنا استمع مرات لمشاعر المباني وهي تستاء وتعاتب، بل وتتألم من نكراننا مرابع الصبا وحارات البدايات.
* بقليل من الارتقاء بالإحساس الآدمي يستطيع أحدنا سماع أصوات البيوت القديمة، وهي تعتب الغفلة تجاه ما حدث لها من هدم مادي ومعنوي.
ولا من اهتمام أو احترام حتى للبيت الشعري “كم منزل في العمر يألفه الفتى وحنينه أبدًا لأول منزل”.
* وتسأل نفسك متى ينبت في قلوبنا الحنين والشوق أو حتى الإحساس بعقدة الذنب مع كل هذا التقصير تجاه جغرافيا اليمن وعمارها، والإنسان.
* حتى المباني صارت تذكِّرنا بأن لها كرامة، وأنها تحتاج للإنصاف بعد أن صارت الحروب والأزمات هي الأصل والسلام استثناء في حالة انتظار.
* على سبيل المثال.. كلما نظرت إلى مبانٍ أصابتها المواجهات الاحترابية المحلية مثل حرب الحصبة في صنعاء في بدايات هدم الدولة ومؤسساتها تحت مزاعم إعادة بنائها من جديد داهمني الإحساس بأن المباني هي الأخرى تعاني الاحساس بالظلم ..!
* وأسأل.. هل يكون أحدنا طبيعيًّا وهو يمر من أمام المبنى الزجاجي المحطم للخطوط الجوية اليمنية ولا يشارك المبنى ما تيسَّر من مشاركة هذا المبنى وغيره شيئًا من الإحساس بالقهر.
* المفروض أن يحدث ذلك كلما نظرنا إلى ما أصاب مدنًا وأريافًا، وقد عشت هذه المشاعر أثناء تجولي في عدن خلال أيام قصيرة، استعدادًا لمغادرة أو عودة إلى الديار.
* ومن يضطره ظرف العودة إلى تعز من أبنائها أو لقضاء مصلحة فيها كاستخراج جواز سفر ستصعقه أوجاعه وأوجاع مبانٍ ومعانٍ، ونقاط الدخول والخروج، ونظرات التوجس أو الخوف.
* في الحديدة عاصمة تهامة وعروس البحر الأحمر.. شعرت بصرخات مبانٍ أوجعها القصف العدواني الجوي الخارجي والمواجهات المؤسفة بين فرقاء الداخل.. قهرتني ممنوعات الوصول إلى بعض رمالها وشواطئها بسبب الحرب.
* كنت أعتقد أن الشعور بأوجاع وصرخات المباني ينتهي بترميم ما لحق بها من دمار قذائف سماء العدوان وقذائف مواجهات الأرض، فإذا بوجع الأماكن لا يستثني حتى أوجاع الإهمال تحت أم المصائب.
* وعندي تجربة شخصية عشتها في زيارتي الأخيرة اليتيمة للحديدة، حاضرة جغرافية تهامة وموطن طائر الغرب.. كانت التجربة شديدة الألم بالنسبة لشخص قضى فيها سبع سنوات من سنوات التعليم الأساسي والثانوي، وسنوات عمل صباحي لتأمين التعليم في المساء..!
* وكنت غبت عن الحديدة زمنًا طويلاً حتى عدت إليها هربًا من زمهرير شتاء صنعاني يحرق الأصابع والأذنين والأنف بلا رحمة.. قضيت ثلاثة أيام في عروس الساحل التهامي الغربي، رأيت أو تخيلت أن البحر غاضب من زواره العصاة، وأن أمواجه وهي تضرب الأحجار التي نقف عليها إنما تعبّر عن حالة غضب من مواطنين هم الضحايا وهم الجناة، وحكومات متعاقبة أهملت الاستثمار في الشواطئ أسوة بشواطئ بلدان أقل عراقة وتاريخًا، حكومات انشغلت عن كل ما يعنيها بما لا يعنيها.
* غادرت الشاطئ متوغلاً في أحياء المدينة القديمة، حارة السور، الصِّدِّيقية، الحَوَك، الحي التجاري، حارة القلعة، مدينة العمال، شوارع زايد وشمسان، وأماكن أخرى كانت بالنسبة لي عناوين سكن أو دراسة أو عمل أو حتى للرياضة والنزهة.
وفي أكثر من مكان في الحديدة كان لا بد من العتاب والسلام والكلام، وكنت في الموقف مع كل بقعة عرفتني أو عرفتها في وضع طالب بليد يقف في حضرة أستاذ ينظر إلى تلميذ لم يتعلم الاحترام.
* تجولت في أحياء عديدة على عجل.. استرجعت الكثير من ذكريات الطفولة.. دراستي من الخامس الابتدائي وحتى الثانوية، ومغادرتي بعد ذلك لأداء خدمة الدفاع الوطني.
* شعرت بالأماكن تشكو بلغة شديدة الوضوح.. استرجعت ذكرياتي الروحية وتجاربي العاطفية والحياتية القديمة في حارة السور.. الجامع الكبير.. محوات باب مشرف.. بيع السمك.. آيسكريم حمدوه.. حارة القلعة.. محل الخياطة الذي لبست منه أول بنطلون.. تذكرت عملي كمدير لإدارة العمل في مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والشباب الملتصق بمكتب الإعلام وإذاعة الحديدة.
شعرت بصوت الشاعر العزي مصوعي، وأصوات المذيعين علي عثمان مدهش، عقيل الصريمي، عبدالرحمن الجفري، وأحمد عمر بالبيد… إلخ.
* وكان ملفتًا أن كل مكان يغريك على الذهاب إلى مكان آخر.. الدراسة المسائية في ما كان يسمى المعهد العلمي الديني.. مقهاية فارع.. ملعب الشهيد العلفي.. تذكرت ابن بني بكاري في تعز عمر حسن هاشم، وابن المخا علي المنصوب، ونحن ننتقي الفيلم الذي سنشاهده في المساء، حينها كانت دور السينما على امتداد المدينة غير مجرَّمة، وإنما محترمة.. سينما الأندلس.. 26سبتمبر.. الشرق.. الشعبية، إلخ.. وآنذاك لم تكن دور السينما تدري بأنها على موعد مع التخريب الممنهج كونها تفسد الدين والأخلاق.. أيامها كنت تشاهد الأب وأسرته يرتادون بلكونات دور السينما دونما إحساس بضغوط فضوليين من أي نوع.
* وفي الحديدة ذكَّرني كل شيء بشيء.. زيارة الشهيد إبراهيم الحمدي لشركة القطن وصدفة تواجدي هناك مع خالي ومصافحتي بيدي الصغيرة له وإعجابي به، وهو يقول:
“هناك أناس يقلقون ولا أدري ما الذي يقلقهم.. هل المصانع والمدارس التي شيدناها هي التي تقلقهم، لا أدري.. هل بناء دولة النظام والقانون هو الذي يقلقهم، لا أدري.. ثم يخلص إلى أنهم لا يقلقون إلا على مصالحهم الشخصية”.
ولم ينسَ الحمدي أن يجدد ما كان يقوله لمن يمتصون دماء الناس: “كفاية شهر عسل”، وتذكرت يوم استشهاده، وكيف ربطنا رؤوسنا وأذرعنا بقطع القماش السوداء.
* في الحديدة.. لم أعرف من يستنطق الآخر أنا أم البيوت القديمة وغرف القش.. استرجعت المذاكرة المسائية في بلكونات مدرسة الثورة قبل امتحان الشهادة الإعدادية، وعلى مقربة مني طالب الثانوية العامة مصطفى العبسي بروفيسور اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية.. وكانت هذه المدرسة تزدان بكونها تضم ملعبًا يتواجد فيه كشافو المواهب الكروية مثل الكابتن المرحوم عبده يافعي، والكابتن مقبل الصلوي وغيرهم من الذين قدموا كوكبة من نجوم الجيل والأهلي والهلال والشباب قبل أن يتحول دمج الأندية إلى لعنة لم تقم بعدها لأندية الحديدة قائمة.
* والخلاصة.. لا شك أن كلاً منكم يحتفظ في ذاكرته بصور مبانٍ وأحياء تعرضت للهجر أو التدمير أو التقادم، فلم تفقد قدرتها على الكلام.. وانتظار أن يعود الوئام، ويحل السلام.
* قولوا إن شاء الله..
* كاتب يمني.
تعليقات