Accessibility links

الهجرة من الاختيار إلى الاضطرار إلى الحلم: قراءة في الآثار والمترتبات!


إعلان

بلقيس محمد علوان

ربما يكون هذا العنوان توصيفًا دقيقًا لعلاقتنا نحن اليمنيين بالهجرة، فعلى مر التاريخ تراوحت بين الاختيار والاضطرار، وقد كانت الكوارث الطبيعية وموجات الجفاف والحروب والصراعات تقف وراء الهجرات اليمنية إلى الداخل اليمني من منطقة لأخرى أو إلى الخارج شمالًا وشرقًا وغربًا، وقد كانت حتى مطلع عقد السبعينيات من القرن الماضي خارجية بصورة أساسية، وبعد هـذا التاريخ تحولت إلى هجرة داخلية من الريف وبعض المدن إلى المدن الكبرى، وخصوصًا صنعاء والحديدة وتعز وعدن بصورة أساسية، فيما شكلت العودة المفاجئة لحوالي مليون مغترب يمني من دول الخليج العربي – بعد حرب الخليج 1990 واجتياح القوات العراقية للكويت – ضغطًا غير مسبوقٍ على البنية التحتية المتواضعة في اليمن، ووجدت كل الجهات الحكومية نفسها مطالبة باستيعاب هذا العدد في التعليم والإسكان والصحة وتوفير فرص العمل، ولكن التحدي كان أكبر من كل الإمكانيات وظل هذا الملف شائكًا ومفتوحًا ضاغطًا على كل جهود الدولة، وبمرور الوقت أضيفت له ملفات أخرى منها الاقتصادي ومنها الأمني، ومنها الجغرافي وهوما جعل من الهجرة اضطرارًا سعى إليه مئات الآلاف من المواطنين من مدن تصنف جغرافيًّا بأنها طاردة للسكان مثل صعدة وأبين ولحج وإب وغيرها باتجاه مدن جاذبة للسكان مثل أمانة العاصمة وعدن، كما استمرت الهجرة من القرى باتجاه المدن، ومن اليمن باتجاه الخارج في موجة أخرى إلى دول الخليج وإفريقيا وأمريكا، وفي الفترات التي توتّر فيها الوضع الأمني في صعدة وأبين خلال حروب صعدة، والمواجهات مع تنظيم القاعدة في العديد من المناطق شهدت المدن اليمنية حركة نزوح اضطراري لعشرات الآلاف من الأسر ليعيشوا ظروف نزوح غير إنسانية في كل تفاصيل حياتهم، ومع بدء الصراع 2014 حدثت موجات النزوح الأكبر التي لم تكن بعشرات أو مئات الآلاف، ولكن وصلت إلى عدة ملايين من السكان الذين اتجهوا للداخل باتجاه المدن الأكثر أمنًا، وإلى الخارج باتجاه بعض الدول مثل مصر وماليزيا وتركيا والأردن وغيرها من الدول، وقد أدت كل هذه الظروف القسرية إلى تحول الهجرة كفكرة من اختيار لتحسين الوضع المعيشي للإنسان اليمني، إلى اضطرار للنجاة لمن استطاع أن يغادر البلاد، والبقاء لمن تعذرت مغادرته أو اختار البقاء وله أسبابه، لكننا نلاحظ أنها صارت حلم الكثيرين من الشباب أيًّا كانت الوجهة، المهم أن يغادر، كل هذا نلاحظه ونعايشه، لكن ثمة ما يترتب على الهجرة اختيارًا كانت أو اضطرارًا وسواء كان المهاجر المغادر بلده مع أسرته أو بمفرده، وأعني هنا ما يتعلق بالعلاقات: علاقات الزوجين ببعضهما، علاقة الأبناء بالأب المهاجر، وعلاقة الأسرة المهاجرة بمحيطها الذي تعيشه في أرض المهجر سواء أكان هذا المحيط من ثقافة مشابهة أو مختلفة أيًّا كانت درجة الاختلاف.

عندما تصبح الهجرة واقعًا معاشًا تواجه الأسر تحديات تؤثر في الحياة الأسرية والمجتمعية، وقد يصبح الأزواج غرباء عن بعضهم البعض وخصوصًا مع طول مدة الفراق بينهم، وبين التوقعات وسقفها المرتفع، والشك والريبة، والتوجس، واللوم المتبادل، قد يصلون إلى البرود والانفصال العاطفي مع بقاء علاقة الزواج، فكل طرف يتساءل عن تطورات ومستجدات حياة الطرف الآخر التي يمكن أن تكون قد حدثت خلال فترة الغياب، فبالنسبة للزوجة تحديدًا هي في الغالب مُهيّأة نفسيًّا ومجتمعيًّا للقيام بدورها كزوجة وربة منزل، لكنها مع هجرة الزوج وسفره تجد نفسها أمام تحديات في إدارة كل تفاصيل وجوانب حياتها اليومية بمفردها، بما في ذلك الاهتمام بالأطفال وتعليمهم وعلاجهم ومشاكلهم في الحي والمدرسة مثلًا والتعامل مع التحديات المالية والقرارات الهامّة بمفردها، ما يجعلها تعاني باستمرار من الإرهاق والضغط النفسي الذي يرافق إدارة حياة الأسرة بمفردها، علاوة على ذلك، قد تعاني من الشعور بالغيرة والشك أو عدم الأمان من تغير الزوج الغائب، وكم من الزوجات عبَّرن: إن العائد من الغربة وكأنه شخص آخر، وأيًّا كان السبب، أو فعلاً هناك تغيّر، فالأمر الواقع أن شروخًا تنتاب هذه العلاقة إن لم يكن الزوجان واعيين، وحريصين على استدامة علاقتهما من خلال التواصل المستمر والحوار والتعبير عن المشاعر، والصراحة والتفهم المتبادل، والعكس صحيح تمامًا.

علاقة الأبناء بالأب المغترب أو المهاجر ينتابها الكثير من الإرباك، وخصوصًا مع طول فترات البعد يكبر الأبناء والأب بالنسبة لهم ممول مالي لكل تفاصيل حياتهم، لكنه غائب عن تلك التفاصيل حلوها ومرها، وأذكر صديقة وصفت لي علاقتها بوالدها الذي يزورهم في كل عام شهر أن هذا الشهر هو الأسوأ بالنسبة لها فلوالدها نظام يختلف عن نظام والدتها الذي يعيشونه طوال فترة غيابه، وخلال الشهر تكون الخلافات بين والدها ووالدتها هي سيدة الموقف وكلهم بانتظار سفره ليغيب سنة أخرى ويعود شهرًا، تقول: لم نعتد وجوده في حياتنا، تعليماته وتوجيهاته تقيدنا، ليته يظل في غربتهّ! وبالطبع ليس هذا هو السيناريو الوحيد لعلاقة الأبناء بالآباء المهاجرين، وخصوصًا مع إمكانيات التواصل حاليًّا، فهناك علاقات أقل تضررًا، والأهم في كل هذه العلاقات هو إدراك المسؤولية والحرص على الخروج بأقل الأضرار، فلا البعد يعني سقوط المسؤولية ولا هو يعني سقوط الحق، والوعي المشترك بين الجميع بأن هجرة الأب هي من أجل الجميع وأن الكل شركاء في تخفيف أضرار هذا الوضع، ولا يكاد يخلو بيت من مهاجر، وأمام أعيننا تحدث التفاصيل.

هجرة الأسرة بجميع أفرادها حال آخر ربما يكون أقل إضرارًا لكنه أيضًا محفوف بالكثير من التفاصيل، منها ما هو شائك، ومنها ما هو جميل، ففي حال الهجرة في بلد من ثقافة مشابهة لثقافتنا أو مختلفة من الملاحظ أن اليمنيين يحرصون على تكوين مجتمعات يمنية صغيرة بعاداتها وتقاليدها وقد يقاومون الاندماج مع المجتمع المضيف، فتجد اليمني بملابسه وطقوس حياته واحتفالاته وروتينه اليومي، وأفكاره والعلاقة عكسية مع المستوى التعليمي والثقافي، وفي تجمعات اليمنيين في مهاجرهم نجد يعض الأسر التي ما زالت تحرم بناتها من التعليم خوفًا وحماية بحسب مبرراتها، ولا تعي أنها تقترف بحقهن خطأً يرقى لدرجة الجريمة، وعمومًا ليس الخوف والحماية هما السبب الوحيد لعدم تعليم البنات في الأسرة اليمنية المهاجرة، فهناك أسباب أخرى تتعلق بالوضع القانوني للمهاجرين في أماكن تواجدهم، فعندما لا يكون قانونيًّا فغالبًا يحرم الأبناء ذكورًا وإناثًا من التعليم، بل وحتى يفتقدون للرعاية الصحية.

هجرة اليمنيين في الغالب ليست هجرة مثمرةً بالقدر الذي يؤمّن الحاضر والمستقبل اقتصاديًّا على الأقل، كما نجد في مهاجرين آخرين يهاجرون وفي رؤوسهم خطة ومشروع للمستقبل، وكلنا شهودٌ على عودة المغترب اليمني إلى اليمن لقضاء إجازة كيف يتصرف ببذخ واضح وكم ينفق لدرجة أنه عندما يعود لغربته يعود مستدينًا، والكثيرون يحسدونه ويحلمون بالهجرة، وغالبًا دون خطة أو مشروع.

لم تكن الهجرة التي تأرجحنا فيها بين الاختيار والاضطرار والحلم ولن تكون حلوة المذاق، مهما كانت ميسّرة ومثمرة، لذلك كان حريًّا بكل مهاجر ومغترب أن يجعل منها – ما دام وقد أصبحت أمرًا واقعًا – جسرًا للمستقبل، ولكن بأقل ضرر، وبوعيٍ تام بأن ثمنها لن يكون الإضرار بالعلاقات الأسرية وحاضر ومستقبل الأسرة.

* كاتبة وأكاديمية يمنية.

   
 
إعلان

تعليقات