عبدالباري طاهر*
هل نقرأ الهجرة في البدايات الباكرة منذ ما قبل انهيار سد مأرب الرامز لانهيارات عشرات، وربما مئات السدود؟.. هل نُرجعها إلى انحصار التجارة والزراعة، وتفشّي الحروب والصراعات الداخلية والخارجية؟
تتشارك الهجرة اليمنية – في القديم – مع اليونان والفينيقيين في أن البيئة طاردة هنا وهناك؛ فاليمن القائمة حضارتها على الزراعة والتجارة عندما تتعثر تغرقُ في حروب وصراعات تبدأ ولا تنتهي.
الحروب الأهلية تستدعي التدخل الخارجي؛ ففي العصر القديم: الأحباش، والفرس، وفي الوسيط: الأيوبيون، والمماليك، والأتراك، والآن إيران، والسعودية، والإمارات.. الهجرة معطى من معطيات ضنك الحال، وشحّ البيئة وقسوتها وشموسها كرؤية الزبيري. الهجرة، حتى للطيور والحيوانات والحيتان، فعلُ اضطرار في جانب منه، وفي العصور الحديثة، فإن الحروب والقلاقل من أهم أسبابها، والنماذج راعبة في أفريقيا، والعراق، وسوريا، ولليمن هجرتها الداخلية بالملايين؛ بسبب الحروب المتواصلة والمتناسلة، وقسوة الحياة المعيشية.
يرى الباحث الكبير الدكتور أبو بكر السقاف أن الهجرة ظاهرة – إلى عهد قريب نسبيًّا – لم تكن لها الدلالة السلبية التي اكتسبتها بعد استقرار الجماعات والأفراد في أوطان ذات حدود معروفة؛ فغدت الهجرة منذ ذلك الوقت دليلاً على اختلال داخلي في هذه الكيانات، ولم تفلح الجماعات في علاجه ضمن حدود الوطن. (مشكلة الهجرة في الـ ج. ع. ي).
للهجرة في العصرين: القديم، والوسيط، وإن كانت اضطرارية، بُعدان: إيجابي، وسلبي، فالجانب الإيجابي للهجرة هو أن اختلاف الأجناس، وتلاقح الأمم والشعوب، وحتى الأقوام والأفراد، فيه حصول التمدّن والتحضّر، وتَجدّد الحياة، وهجرات الأنبياء والمصلحين والشعراء والمفكرين والفلاسفة فتحت أبوابًا واسعة أمام التجديد، أما الجانب السلبي؛ فلِأنّ فيها مفارقة الوطن والأهل، وحرمان الوطن من قدرات وطاقات يحتاجها للبناء والتنمية؛ ومن هنا كان موقف الأدباء والمبدعين ضد الهجرة، وكتابات محمد عبدالولي، رائد القصة في اليمن، تُجسّد هذا البُعد؛ (يموتون غرباء)، و(ليته لم يعد!)، و(شيء اسمه الحنين).. ثم إن أغاني المهاجل البالية للشاعر الكبير مطهر علي الإرياني، وقصيدة عيد الجلوس للشاعر الكبير عبدالله البردوني، وأغاني المرأة في الريف اليمني، وبخاصة في الحجرية، ومواويل البحارة – كلها مراثٍ حزينة، وتَوجُّع من الغربة؛ فالهجرة سردية كبرى تصل تخوم الأسطرة، وتُغطي التاريخ اليمني الممتد لمئات وآلاف السنين؛ فالبعض يرى فيها هروبًا من المواجهة مع قسوة البيئة القاسية والشموس، ويقرأ فيها الزعيم محمد أحمد نعمان “الأنة” التي فرضت الهروب على اليمني، و”الأنة” كتاب صغير حجمًا، كبير معنى ودلالةً لمفردات القمع الإمامي للفلاحين؛ فمفردات “الخراصة”، و”الجباية”، و”الإتاوة، و”الزكاة”، و”المكوس”، و”الصبرة”، كلها تعني نهب المحصول الزراعي؛ ما أدى إلى فرار الفلاحين إلى الخارج أو المدن؛ فأُهمِلت الزراعة، وانكمشت الرقعة، وتصحّرت التربة.
مؤرخ الحركة الوطنية علي محمد عبده في كتابه المهم (لمحات من تاريخ حركة الأحرار اليمنيين) قرأ ودوّن هذه الدلالات المهمة في رصده لرحلة المهاجرين ودورهم في بناء الحركة الوطنية في شمال الوطن ورفدها، كما أن الباحث مسعود عمشوش هو الآخر قام بدور مهم ومائز في رصد المَهاجر الحضرمية في جنوب شرق آسيا، وشرق أفريقيا في كتابه (الحضارم في الأرخبيل الهندي)، وقد درس هذا الباحث الأكاديمي هجرة الحضارم ودورها في رفد الحياة والأثر والتأثير في مختلف جوانب الحياة، كما أن موسوعة أو (الجامع) للأستاذ محمد عبدالقادر بامطرف رصد مهم شمل أعلام المهاجرين المنتسبين إلى اليمن وقبائلهم، وقد تتبع الموثِّق والباحث والصحفي القديم سعيد الجناحي جوانب مهمة من الهجرة الحديثة التي رفدت الحياة التجارية والحضارية في تعز وعدن، واهتم الباحث العراقي نزار الحديثي بدور اليمانيين في صدر الإسلام في الفتوحات، وفي موكب نشر التمدٌن والتخطيط في غير بلد، ورصد الدكتور جمال حزام النظاري (الهجرات الحضرمية الحديثة إلى الهند)، وقام الأستاذ عبدالله الحبشي بتتبع صحافة المهجر، كما كتب باحثون عديدون عن صحافة المهجر.
الإنسان اليمني مبدع، ويمتلك قدرة فائقة على التكيف والقابلية والتضحية، وهو يعمل بجدّ واجتهاد، ولعب دورًا بارزًا في الفتوحات الإسلامية، وفي قيادة الجيوش العربية، ولعب الحضارم دورًا بارزًا في شرق آسيا وشرق أفريقيا في مشاركة هذه الشعوب في كفاحها للتحرر الوطني، وبناء كياناتها الوطنية، وقام أبناء تعز وعدن والوسطى برفد الحركة التجارية والنشاط الوطني العام، والتأسيس للحركة الوطنية منذ القرن الماضي؛ فموّلوا نشاط حركة الأحرار، وأسهموا في صحافة المهاجر، وشراء مطبعة (صوت اليمن) الناطقة بلسان الأحرار اليمنيين، وكان للهجرة والمهاجرين دور مائز في تحسين ظروف معيشة الأسرة، وفي تنشيط الحركة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية، وتقوية الخبرات والمهارات، ورفدت العائدات من الهجرة الاقتصاد الوطني والدخل القومي بمبالغ كبيرة لعدة عقود.
تُشير الوقائع والدراسات إلى الأثر الكبير لهذه الهجرات اليمنية على المهاجر؛ فقد لعب الحضارم دورًا مائزًا و مشهودًا في نشر الإسلام في جنوب شرق آسيا، والإسهام في التمدّن والتحضّر والاندماج بحركات التحرر هناك، وأسهموا بدور بارز في بناء هذه الكيانات في أندونسيا وماليزيا وسنغافورة، وفي النشاط التجاري والحياتي بصورة عامة، كما ساهم اليمنيون بأدوار في النشاط التجاري والحضاري في أفريقيا، وأثرُ التجار الحضارم، والعمالة اليمنية في العربية السعودية، ودول الخليج كبير؛ فلم تكن الهجرة اليمنية متأثرة فقط، وإنما مؤثرة أيضًا، وللأسف لم يبرز هذا الجانب بشكل كافٍ ومنصِف.
يُغطّي مبحث الدكتور محمد أبو بكر باذيب جوانب متميزة عن إسهام علماء الحضارم في نشر الإسلام في الهند، كما يُغطي كتاب العزي الصلوي جوانب مهمة عن دور المهاجرين في أفريقيا عبر التاريخ.
تشهد اليمن هجرة معاكسة وتدهورًا كبيرًا أوضاع المغتربين، ومناطق الجذب تحولت إلى مناطق طرد، خصوصًا دول الخليج والدول الأفريقية.
الأزمات الدولية حدّت وتحدّ من استقبال المهاجرين، ولعبت الحروب في اليمن وسوريا والعراق وليبيا وفي البلدان الأفريقية في انسداد أبواب الهجرة إلى أوروبا وأميركا، ونشأت تيارات يمينية في أوروبا وأميركا تُجرّم الهجرة، وتضطهد المهاجرين، ولا شك أن لتيارات الإرهاب دورًا خطيرًا في هذا المضمار، وللاتجاهات الفاشية والنازية الجامعة بين التمييز والفصل العنصري في هذه البلدان دورًا سيئًا في هذا المنحى.
التذكير بالماضي مهم، ودراسة وبحث الهجرة اليمنية وأثرها وتأثيرها بالغ الأهمية في الراهن؛ فبقراءة الماضي نُفيد منه للذهاب إلى الآتي الأفضل؛ فالماضي هو المدماك الذي لا يمكن البناء إلا على أساسه، ومن نوافذه وأبوابه نستشرف آفاق المستقبل.
*نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق
تعليقات