وجدي الأهدل*
في كتابه “اليد واللسان”(1) يتغلغل الناقد السعودي عبدالله الغذامي في نسيج الثقافة العربية، ويتتبع الخيوط والعقد التي تشكل هذا النسيج وتعطيه مظهره الجمالي، كاشفًا في الوقت نفسه العيوب الظاهرة والخفية التي تعتور هذا النسيج.
ويتكون الكتاب من أربعة فصول وملحق:
1- القراءة مفاهيم أولية.
2- رأسمالية الثقافة: الأكثر مبيعًا.
3- الأمية: سؤال آخر.
4- حكايات الكتاب.
وملحق: لوحات ديريدا والتمركز المنطقي.
ويتجنب الغذامي عامدًا الكتابة بتلك اللغة الأكاديمية الجامدة الجافة، مقربًا المسافة بين اليد واللسان، أي أنه وبذكاء شديد يقترح سلوكًا كتابيًّا جديدًا للنقاد والمفكرين العرب، مؤداه أن لا يفصلوا بين كلامهم اليومي الشفوي الذي يستخدمونه في التخاطب مع الناس، وبين كتاباتهم على الورق حينما يخاطبون قراءهم. وأن من المحبذ جدًّا أن يتعاطى المؤلف لغة وسطى، سهلة مفهومة للاثنين: اليد واللسان.
وهو بهذا الموقف الفكري الذي يصرح به في الكتاب يدعونا نحن الكتّاب العرب إلى اختيار منطقة وسطى مريحة بين الثقافتين الشفوية والكتابية.
ويُطبق الغذامي هذا التوجه على نفسه في كتابه المذكور هذا، فهو حين يروي أمورًا عن نفسه نراه يتخفف من الصيغ الفصحى الثقيلة على اللسان، ولا يتحرج من استبدالها بجمل خفيفة تميل أكثر إلى الصياغات المتداولة شفويًّا، وقد يستخدم ألفاظًا مما تجري به ألسنة العوام فيذيبها في نسيجه اللغوي دون تكلف أو تحذلق، فيتحقق له أيضًا سيولة في اليد.. يد الكاتب.
ويستشهد الغذامي بحكاية أوردها الجاحظ عن نفسه، وهي حكاية شهيرة جدًّا ومتداولة، وفيها استخدم شيخ الأدب العربي وإمامه لفظة عامية، أتت في موضعها السليم، وبها أثبت الجاحظ الصدق الفني للحكاية التي أوردها عن نفسه:
“أتتني فتاة وأنا على باب داري فقالت: لي بك حاجة وأريد أن تمشي معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا وانصرفت. فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت إليّ بفص وأمرتني أن أنقش عليه صورة الشيطان، فقلت لها: يا ستي ما رأيت الشيطان، فأتت بك وقالت ما سمعت”(2).
ويُعلق الغذامي على استخدام الجاحظ لمفردة (يا ستي) بقوله:
“وكلمة (ستي) في هذه القصة مفردة تدل على لهجة شعبية لم يُغفلها الجاحظ ورصدها مثل رصده لخطب أهل البيان”(3).
ويلتفت الغذامي في ملاحظة ثاقبة إلى مغزى عنوان كتاب الجاحظ الذائع الصيت “البيان والتبيين” كاشفًا عن مقصد إمام الأدب العربي:
“ولعل عنوان كتابه (البيان والتبيين) يدل على هذين البعدين في المستوى اللغوي حيث مصطلح البيان للعلية بينما يشير التبيين إلى لغة التداول اليومي في تقابل مستمر عند الجاحظ بين المتن حيث المؤسسة الثقافية الرسمية، وبين الاستطراد حيث الثقافة الشعبية”(4).
وبهذه الملاحظة الصائبة يُرجح الغذامي وجهة نظره في ضرورة المقاربة بين ثقافتي اليد واللسان واتخاذ منطقة وسطى بينهما.
ومن المعلوم أن كتّاب القصة والرواة العرب يعانون من صرامة النقاد والنحويين فيلتزمون بالفصحى التزامًا تامًّا، ويتجنبون ظهور الدارجة في كتاباتهم خوفًا من بطش أولئك المتزمتين وحدّة ألسنتهم، فإذا بالفجوة تتسع في الأدب العربي المعاصر بين اليد واللسان. ولا ريب أن هذا التشدد اللغوي هو أحد المنغصات الكبرى لكتابة النثر عند العرب. لذا ليس مستغربًا أن ينجز الأدباء العرب نصوصًا أدبية مُعقمة، متعالية على مجتمعاتها ومتباعدة عن ثقافتها الشفوية الزاخرة بالنبض الشعبي الفوار بالحياة.
يُقدم الغذامي وهو أحد أعمدة النقد العربي مقترحًا عمليًّا للخروج من هذه المعضلة، يتمثل في الإقدام على الاستفادة من الألفاظ العامية ما دامت ترد في سياقها الفني الصحيح. وفي نهاية الأمر تخضع المسألة لذوق المؤلف ودرجة حساسيته اللغوية.. أي أن على القاص والروائي أن يتصرف باللغة تصرفًا إبداعيًّا، وأن يجرب التماس مع اللغة الدارجة الشائعة في أوساط المجتمع ويهضمها ثم يتمثلها في نصوصه الكتابية.
بالطبع ينجح الغذامي في التصرف الإبداعي باللغة، لأن حساسيته اللغوية مرهفة، وهذا ما ندركه حين نقرأ كتابه “اليد واللسان” إذ يأخذ من الفصحى دون تكلف معجمي أو تقعر أكاديمي، ويغرف من العامية المفهومة عندنا جميعًا دون إغراق أو تزيد لا حاجة له. وأعتقد أن هذه الحساسية اللغوية المرهفة هي التي ساعدته أيضًا في التفوق على أقرانه عند ترجمة المصطلحات النقدية الأجنبية إلى العربية، إذ كانت خياراته عند الترجمة تقترب بالمصطلح الأجنبي جهة اللسان، عكس المترجمين الآخرين الذين كان انحيازهم الواضح إلى جهة اليد.. وأضرب مثالًا بالترجمة العربية لمصطلح (poetique) حيث ترجمه كثير من النقاد العرب بـ(الشعرية) وتفرد الغذامي بترجمته إلى (الشاعرية) (5).
وبالنسبة لي لم أكن أشعر بالارتياح أبدًا حين أقرأ أو أسمع ناقدًا يتكلم عن الشعرية في قصة كذا للكاتب الفلاني، وعلى غرار ذلك تلك الجمهرة الواسعة من النقاد الذين كالوا المديح للقصص الشعرية.. كان هذا كله يبدو لي نوعًا من الهذيان غير المفهوم، وتقفز في رأسي على الفور مقارنات مضحكة من نوع: إذا كانت هناك قصة شعرية فأين هي القصيدة القصصية؟؟ لكن لو أن أولئك النقاد – سامحهم الله – أخذوا بترجمة الغذامي للمصطلح وقالوا الشاعرية في القصة، أو أن فلانًا يكتب القصة الشاعرية لكان هذا مفهومًا عندي ولا يحتاج إلى توضيح.
يشير الغذامي إلى هذه النقطة بقوله:
“وبدلًا من أن نقول “شعرية” مما قد يتوجه بحركة زئبقية نافرة نحو “الشعر” ولا نستطيع كبح جماح هذه الحركة لصعوبة مطاردتها في مسارب الذهن، فبدلًا من هذه الملابسة، نأخذ بكلمة “الشاعرية” لتكون مصطلحًا جامعًا يصف “اللغة الأدبية” في النثر والشعر، ويقوم في نفس العربي مقام poetics في نفس الغربي، ويشمل – فيما يشمل – مصطلحي الأدبية والأسلوبية”(6).
في الفصل الثالث (الأمية: سؤال آخر) يسلك الغذامي مسلكًا ما بعد حداثي في التفكير وإعادة تقييم مسألة الأمية. تتسق آراء عبد الله الغذامي مع تيار ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالموقف من قضية التعليم، فهو يرى أن الأمية لا تشكل خطرًا على المجتمعات البشرية ولا حتى عبئًا عليها، وأن الخطر كل الخطر على المجتمعات إنما يأتي من أنصاف المتعلمين وأنصاف العلماء:
“وأنا هنا أؤكد على معنى أساس وهو أن الأمية ليست رديف الجهل ولا هي نقيض الثقافة، ولكن البلوى هي فيما يسميه صديقنا الأستاذ إبراهيم البليهي بعلم الجهل وبنية التخلف، وهم عندي أنصاف المتعلمين الذين لا يتمتعون بطيبة الأمية وتواضعها وفي الوقت ذاته لم يدركوا الوعي المعرفي وأخلاقيات الابتكار، ويزيدون الأمر ظلامية بألا يتركوا الأمر لأهله وهذا هو التكدس الحضاري القاتل فعلًا، مع ما يصاحبه من قمع متصل لكل فكر ابتكاري”(7).
والفصل المذكور فيه آراء بالغة الجرأة وتحتاج إلى تأمل عميق، ونستنتج منها أن الغذامي يخالف الحداثيين في وجوب التعليم الإلزامي لجميع أفراد الشعب، ويحْمِل على هذه الفكرة ويعتبرها سببًا في ابتلاء المجتمعات العربية بأنصاف المتعلمين الذين أعاقوا المفكرين التنويريين والمبدعين الحقيقيين من ممارسة دورهم الطليعي في تطوير الحضارة العربية المعاصرة. لا يقولها الغذامي صراحة، ولكنه يُلمح إلى أن صهر المجتمع في نسق ثقافي واحد خطأ ينبغي الرجوع عنه، وأن من الأفضل للعرب القبول بأنساق ثقافية متجاورة، وأن يكون هناك توازن واستفادة متبادلة بين ثقافتي اليد واللسان، مما سينتج عنه خلق دولة عصرية قوية ومتطورة.
قد لا يروق رأي الغذامي للكثيرين، لكنني ألاحظ في بلدي -اليمن- أن الإعاقة الحقيقية للتقدم والتطور أتت من أنصاف المتعلمين، من جحافل المتخرجين من جامعات ومدارس محلية، ممن تعلموا فك شفرة القراءة والكتابة وفقهوا شيئًا يسيرًا من مبادئ العلوم والآداب، فإذا بهم يزيحون النخبة الممتازة من المثقفين والصفوة اللامعة من المتعلمين ويحلون بدلًا عنهم في إدارة البلاد والتحكم بمقاديرها، فكانت النتيجة تهاوي بلد واسع المساحة وذو إمكانيات اقتصادية واعدة في مستنقع من التشرذم السياسي والإملاق المعيشي.
يقيم الغذامي سجالًا خفيًّا بين اليد التي تمثل تيار الحداثة، وبين اللسان الذي يمثل تيار ما بعد الحداثة. ولا يُخفي الغذامي انحيازه النسبي إلى ثقافة اللسان – أي الثقافة الشفوية الشعبية – ويقدم مداخلة ممتعة تتنبأ بأن عصرنا سيتجه أكثر فأكثر إلى اللسان على حساب اليد، ويرى أننا دخلنا زمنًا جديدًا أطلق عليه مسمى “الشفاهية الإلكترونية” حيث أصبح بمقدور كل شخص أن يعبر عن رأيه، مؤذنًا بانتهاء حقبة احتكار الكتاب للرأي:
“وحينما جاء الاختراع الحديث في الإنترنت، وسهل أمر الدخول إليها والتحرك اللغوي والتواصلي عبرها تعززت وسائل وفرص الحش والنميمة، فالإنترنت حلت محل النمام الشفاهي البسيط، وصارت هذه الأداة التكنولوجية ميدانًا عريضًا للغيبة وللنميمة وبأوسع صورهما الممكنة، وإذا عثر امرؤ على معلومة سرية وتحركت عنده رغبات الفضح والنم سرى بها بجرة أصبع على الشاشة البيضاء وتحركت معه كل روابط التواصل لتعميم هذا السر ووضعه في صيغة تداولية غير نهائية. هنا نشأ النمام التكنولوجي الحديث، ومعه زادت فرص ومجالات الحش والغيبة، وتسنى للمغتاب والنمام أن يتستر وراء أقنعة كثيفة”(8).
على الرغم من السلبيات التي قد تصاحب هذه “الشفاهية الإلكترونية” لكنها من وجهة نظري ستقدم خدمة عظمى لأرباب القلم، إذ أتوقع أن يكف الرقباء عن سماجتهم في مطاردة كتابات المفكرين والمبدعين، وأن يتراجع المتمسحون بالأخلاق الحميدة عن العبث بتراثنا وإساءاتهم الضمنية لأفذاذ الثقافة العربية في العصور الإسلامية الزاهرة حينما يحذفون جملًا يرونها غير لائقة، أو يمنعون كتبًا يعدونها غير أخلاقية، مفترضين في أنفسهم كمالًا أخلاقيًّا ودرجة من الفضيلة أعلى من أسلافهم، مهملين الفارق العظيم بين نفوسهم الخاوية ونفوس تلك النجوم المضيئة التي تركت خلفها إرثًا خالدًا للإنسانية.
وأقرب مثال يحضرني الآن هو كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي ترجم إلى كافة لغات العالم، وألهبت حكاياته خيال الملايين من الرجال والنساء في سائر الثقافات، وأصبح بمثابة النموذج الأعلى على الإطلاق للكتابة الخيالية، ونعلم جميعًا ما تعرض له هذا الكتاب الرائع من تشويه وحذف. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع كتاب “مقامات الحريري” وغيرهما من الكتب التراثية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اليد واللسان: عبدالله الغذامي، نقد، سلسلة كتاب المجلة العربية، العدد 172، الرياض، مارس 2011.
(2) المصدر نفسه، ص 136.
(3) المصدر نفسه، ص 136.
(4) المصدر نفسه، ص 136ـ 137.
(5) محمد حمودي: المصطلح النقدي عند عبدالله الغذامي، مجلة نزوى، مسقط، العدد 66، إبريل 2011.
(6) المصدر السابق، ص 66.
(7) اليد واللسان: عبدالله الغذامي، نقد، سلسلة كتاب المجلة العربية، العدد 172، الرياض، مارس 2011، ص 99.
(8) المصدر السابق، ص 101.
———————
*روائي وكاتب يمني.
تعليقات