أحمد الأغبري
تُمثل روايات الخيال العلمي والفلسفي تحديًا للكاتب والقارئ معًا؛ لأنها تقطع بالخيال السردي مسافة أبعد مما يقطعه السارد في ما دونه من السرود، وبخاصة في العلاقة بثنائية التصور والتصوير؛ كما أنها تقتضي من السارد أن يكون ممتلئًا بقدرٍ ما بمجال من مجالات العلوم المختلفة ضمن رؤية فلسفية، لينطلق على الأقل من زاوية تكون جديدة، وتُمثل إضافة لمجال السرد… بمعنى أن تقدم رؤية خيالية مختلفة في علاقتها بالعلم والفلسفة تحديدًا، بما يعزز من حضوره في وعي وثقافة القارئ.
استطاعت هذه الروايات أن تحقق قفزة بالسرد الروائي إلى مستوى أصبحت من خلاله الرواية مصدرًا لإعادة الاعتبار للعلم، وبخاصة لدى الناشئة، وتمكين القارئ من الاهتمام بهذا العلم أو ذاك، وأحيانًا تفتح آفاقًا جديدة لمراحل علمية لم يحققها الإنسان، وبالتالي تمكّن القارئ من رؤية المستقبل المتوقع.
كما أن مصطلح “الخيال العلمي” يذهب بنا إلى القول إن الخيال عندما يكون علميًّا ليس بالضرورة أن يلامس المستقبل أو يخاطب الحاضر، بل قد يقترب من مناطق بعيدة ربما لن يقترب منها الإنسان في واقعه، كروايات الصحون الطائرة والكائنات الفضائية، علاوة على أن هذا المصطلح يمتد إلى روايات تمزج في تحليقها السردي بين الحقيقة العلمية والرؤية الفلسفية وما جاء به النص الديني في القص وخيال السارد، ويبقى الأخير هو الفاعل والمؤثر… كالرواية التي نحن بصدد الوقوف عليها، وهي رواية “الواحد” للكاتب اليمنيّ طلال قاسم، والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2013م في 424 صفحة، وهي رواية تشتغل على الخيال العلمي النفسي المشبع برؤية فلسفية في سياق محاولة السارد تقديم قراءة لبناء الكون وموقع الإنسان كإرادة وحرية مركزًا لتلك الرؤية.
البناء
كان بناء الرواية تصاعديًّا في خط درامي ظل متوهجًا ابتداءً من استيقاظ جاك/ إبراهيم في لندن لينتهي باستيقاظه بشخصية آدم في الجنة… وإن كان السرد لم يُفسر حالة استيقاظ جاك/ إبراهيم في لندن، وعلاقته باليمن كذاكرة ولغة وثقافة، ومن ثم باستيقاظ آدم في الجنة.
حاولت الرواية المزج بين ما جاء به النص الديني عن قصة آدم عليه السلام وما أراد الكاتب الذهاب إليه في سير أغوار النفس البشرية من خلال الكشف عن كثيرٍ من أسرارها والاستدلال بما وصل إليه علم النفس، من خلال قصة شاب استيقظ على مكان وبلد لا يعرفهما وعائلة ولغة وثقافة ينكرها… فبينما يتذكر هذا الشاب شخصية إبراهيم الذي ولد وعاش وتزوج ولديه أسرة في اليمن، إلا أنه يجد نفسه مستيقظًا ذات صباح في منزل بلندن لعائلة تقول إنه ابنها واسمه (جاك). وبين محاولة رفض هذه الشخصية التي استيقظ عليها والتمسك بشخصيته الإبراهيمية كان لا بد لأسرته البريطانية اللجوء لطبيب نفسي.
وتناولت الرواية في هذه المحطة عوالم مختلفة من علم النفس في سياق تتبع حكاية (الواحد)، وهو شخصية جاك/ إبراهيم؛ لتُمثل الرواية في هذه المحطة تحديدًا محمولًا فلسفيًّا علميًّا ثقيل الوزن؛ إذ اجتهد السارد كثيرًا في تقديم قراءات علمية نفسية خلال محاولة أطباء علم النفس فك لغز جاك/إبراهيم من خلال تحليق مكثف في سماوات هذا العلم، وإن كان ذلك التحليق لم يفك لغز ثنائية تلك الشخصية.
وخلال ذلك يظهر صراع بين منظمة سرية وجماعة أخرى حول الاستحواذ على هذا الشخص باعتباره (الواحد) مركز الحياة والكون، (وهو وصف مبالغ فيه، ولم يكن السارد مضطرًّا له لمحدودية العلاقة بين كينونتي الإنسان والكون)، وأن الحياة بكل تناقضاتها ليست سوى حلم في عقله خلال نومه… وبينما تحرص المنظمة للوصول إليه لاستمرار نومه خوفًا على انهيار الحياة القائمة، كانت هناك جماعة تسعى للوصول إليه لإيقاظه وإنهاء هذه الحياة/ الحلم، وهو ما تم ليستيقظ جاك/ إبراهيم في الجنة باعتباره آدم عليه السلام… وهناك يشعر بضجر الوضع باعتبار كل شيء فيها مكتمل، بينما يتذكر حلمه ويتوق ليعيشه واقعًا، وهناك يلتقي إبليس الذي دله على أن السبيل إلى ذلك هو الأكل من الشجرة المحرمة… وبالفعل اقترف مع حواء ذلك الإثم؛ ليتجلى لهما الإله (هكذا أسماه السارد) ليخبرهما: “علمتُ ما فعلتما، وعلمتُ كل ما حدث لك يا آدم من حلم أوحاه لك إبليس، وعلمتُ كل شيء وكل إحساس استقر في قلبك جراء ذلك الحلم وما قبله، وتركتُ كل شيء يحدث ويتعاظم فيك، وتركتك تتخذ قرارك بنفسك وبملء إرادتك وحريتك، وها أنت تتخذ قرارك بعصيان أوامري بالأكل من الشجرة التي حرّمتها، وها أنا أمنحك الحياة التي من أجلها عصيت، والتي من أجلها أصبحت تدرك معنى أن تكون حرًّا، وهذا ما خلقتك لأجله… أن تكون حرًّا وتعرف معنى الحرية ومسؤوليتها… سأنزلك إلى الأرض التي بها حلمت وعصيت؛ لتعيش تلك الحياة، بكل ما فيها من تناقض وحرية يجب أن تتحمل مشاق مسؤوليتها؛ فالحرية هبتي الثمينة لك، ومسؤوليتك تجاهها ستكون هي عبادتك الخالصة لي”.
بهذا الحديث الذي استمده الكاتب من خياله وربما من نصوص دينية غير إسلامية انتهت الرواية التي حاول ساردها تقديم رؤيته تجاه النفس البشرية موغلاً في أعماق علم النفس، مقدمًا الكثير من المعارف تجاه غموض النفس البشرية، والمستويات التي وصل إليها علم النفس في علاقته بتفكيك ألغاز الإنسان في علاقته بالحياة من حوله… وصولاً إلى الوقوف على إشكالية الإنسان مع الحرية والإرادة من خلال قصة آدم مع الأرض والجنة… كأنه أراد أن يقدّم قراءته الفلسفية لقصة خروج آدم من الجنة؛ باعتبارها كانت رغبته… لكنه لم يربط بشكل مقنع بين تلك القصة وقصة يقظة جاك/ إبراهيم بشخصيتين في لندن، وما أحاط بها من قراءة نفسية ضمن رؤية فلسفية اقتربت من إشكالية بناء الكون… فالقراءتين لم يربط بينهما رابط واضح ومقنع.
الخطاب
في الخطاب السردي حاول السارد القول إن آدم قد عاش الحياة الإنسانية بكل تعقيداتها وتناقضاتها وصخبها… حلمًا، صاحبه فيها إبليس في ذلك الحلم، وكانت مهمة إبليس إيقاظ آدم من حلمه لتتوقف تلك الحياة التي عاشها في حلمه، ويعود إلى وعيه ليشكل ذلك الحلم باعتباره بذرة رفض آدم للبقاء في الجنة المنظومة بإحكام دقيق ومكتمل ومضجر بالنسبة لآدم، وبالتالي رغبته في أن يعيش ذلك الحلم واقعًا، وبالتالي كانت رغبته في النزول إلى الأرض بمعنى أن الحياة كانت فعل تمرد وتحرر.
بلا شك كان ثمة فجوات في السرد وتشير لعديد من الأسئلة، وهي: لماذا لم تظهر الفكرة الرئيسية التي أراد الكاتب إيصالها من الرواية بوضوح، فثمة تشويش عليها من تفاصيل كثيرة؟ وهل تلك الرسالة هي في الحلم الذي عاشه في الأرض، والذي شغل ما نسبته 90 في المائة من السرد، وفيه غاصت الرواية في أعماق النفس البشرية من خلال الخيال العلمي الذي حاول تفسير وضع جاك/ إبراهيم ومحاولة فك لغز شخصيته المركبة، أم أنها كانت في محاولة فلسفة الحلم الإنساني وحضوره في سردية آدم في الجنة باعتباره حافز آدم لاقتراف الإثم باعتبار ذلك إرادة وحرية؟… لقد قطع السارد مسافة طويلة في هذا الصدد قبل الوصول بالبطل إلى محطة معرفة حقيقته باعتباره (الواحد) الذي لا تمثل الحياة من حوله بكل تعقيداتها وامتداداتها سوى حلم، وكل الناس هم نسخ منه وشخوص في حلمه، الذي يجب أن يستيقظ منه، وتلك كانت مهمة إبليس التي نجح فيها، وبمجرد يقظته انتهت تلك الحياة؛ ليجد جاك نفسه في الجنة باعتباره هو آدم… وفيها تحضر سردية اصطدمت بالنص الديني، وتحديدًا الإسلامي… فهل ذلك هو ما أراده الكاتب؟ أم أن الهدف كان البحث عن الذات باعتبارها الإرادة والحرية؟
لم يحضر النص الديني في الرواية بشكل مباشر، وإن استفاد منه السارد، وتحديدًا عندما استقر جاك في شخصية آدم، وحتى في ذلك الحيز من الرواية لم يحضر مباشرة في إشارة إلى حرص السارد على عدم التماس به، لكنه كان في سردية آدم في الجنة متماسًّا معه وفق رؤية تخص الكاتب نفسه، مختلفًا مع السرود الدينية، وتحديدًا في تصالحه مع شخصية إبليس… وهناك كان الخيال العلمي قد توقف بعد ماراثون طويل على امتداد معظم الرواية، كان فيها السرد مشوقًا في محاولة تفسير ثنائية جاك/ إبراهيم… ومن ثم دخول ذلك الخيال ماراثون آخر في محاولة تقديم قراءة نفسية فلسفية مقنعة للحالة وما يحدث لها، بما في ذلك حادث الاختفاء المفاجئ الذي لم تفسر الرواية كيفية حصوله، لا سيما مع ارتباطه بحادث تحوُّل شهدته مظاهر الحياة الطبيعية في لندن، وصولاً إلى وصف البطل بصفات ألوهية وربطه بشخوص الأنبياء والمصلحين على مدى التاريخ… كل ذلك لم يكن مقنعًا، ولم يكن السارد مضطرًّا له ليس باعتباره تابو، وإنما لأنه لم يقدّمه في سياقات مقنعة.
تبقى الرواية إضافة نوعية وخطوة متقدمة في مسار الرواية اليمنية المعاصرة.
تعليقات