بلقيس محمد علوان*
كنت معجبة جدًّا بما تقدمه لأجل أسرتها، كانت مسؤولة عن كل شيء: التربية، متابعة المدارس، الرعاية الصحية، المذاكرة والترفيه الخاص بالأبناء وأعمال البيت، إضافة لدعم زوجها الذي كان متفرغًا لإنجاز رسالة الدكتوراه، كانت تهتم بكل صغيرة وكبيرة بتفانٍ عظيم، لكنها ذات حوار قالت لي: أين أنا من كل هذا؟ جهدي وطاقتي وصحتي وكل شيء أقوم به لأجل أسرتي لا أجد نفسي فيه، إنهم يكبرون وينجزون وأنا في نفس المكان، وسأجد نفسي ذات يوم وحيدة، وكل واحد منهم في حياته واهتمامه.
حالة أخرى لامرأة شابة وأم لطفلين وعاملة في الوقت نفسه، تقوم بكل أدوار الأم والأب بعد وفاة زوجها، انضغطت نفسيًّا وماديًّا… في الفترة الأخيرة تقول: أشعر إني مستنفدة، مشاعري سلبية تجاه كل شيء، حتى أطفالي، أشعر أن هذا فوق طاقتي، تعبت وكثيرًا ما أفقد الرغبة في عمل أي شيء، وفي الحقيقة لا وقت لأي شيء: عملي وأطفالي ومتطلبات البيت، طلب وايت الماء، وطابور الغاز، والمتابعات الصحية، بما فيها الطوارئ لإسعاف أحد أطفالي ليلًا أو نهارًا، لا وقت لي، ولا شيء يتم بسلاسة، كل شيء يتم بشق الأنفس، لا مكان لي، لا وقت لإتمام أعمال تخصني بعد أن أصبحت أمًّا وأبًا فجأة.
في حقيقة الأمر لا يُقدّر أغلب الناس ما تقوم به النساء في الحياة الأسرية، سواء كن عاملات خارج المنزل، إضافة لأدوارهن المنزلية والأسرية، أو كن متفرغات للأسرة ومتطلبات الحياة الأسرية وواجبات الأمومة، والمجتمع قاسٍ بشكل مروع على النساء، وكل ما يقمن به يقع تحت تصنيف (عادي هذا عملهن.. الله خلقهن لهذه المهام)، وإن كانت تعمل إضافة لدورها في الأسرة، فهي تحت مجهر الجميع، وغير مسموح لها بالتقصير، وكل تقصير سيضعها في مقارنة نتيجتها أن العمل هو السبب، بل إن الكثيرين يتحفظون عن تقديم الدعم والمساندة للمرأة العاملة حتى لا تعتاد ذلك، وحتى تظل في مارثون الحياة الذي يفترض منها، بحسب رؤية المجتمع، أن تكون مرأة خارقة لأنها اختارت العمل، وتظل المرأة في دوامة المحاولة ألا يُسجل ضدها أي تقصير، والأمر أكثر تعقيدًا مع وجود أطفال صغار تستغرق رعايتهم ساعات طويلة لتجد المرأة نفسها تعمل أغلب ساعات الليل والنهار على مدار الأسبوع وطوال أيام السنة، ولكن هل هذا السيناريو الوحيد الممكن: تفانٍ وإنهاك، واستنزاف للطاقة والصحة الجسدية والنفسية؟
إنها رحلة الأمومة بكل تبعاتها والتزاماتها، وبالتأكيد تختلف من امرأة لأخرى، وما قد تحتاجه امرأة لا تحتاجه امرأة أخرى، ومن الخطأ الاعتقاد أن تجارب الأمهات متشابهة فكل تجربة لها خصوصياتها، وظروفها، بل إن الفروق الصغيرة تجعل كل تجربة فريدة ومهمة، لكن المؤكد أنه يجب أن نستقطع لأنفسنا كنساء وقتًا يخصنا مهما كان بسيطًا، ومهما كان ما نقوم به فيه محدودًا للغاية جنبًا إلى جنب مع أدوارنا الحيوية كأمهات، ويمكن لهذا الإجراء البسيط أن يجعلنا في حال أفضل، ومع هذا الوقت المستقطع نستحق أن نحظى بالمساعدة، ولا حرج أبدًا من طلبها، وهذا يعني أن نتخلى عن فكرة أن الأم يجب أن تقوم بكل شيء لتثبت للجميع كم هي كاملة.
بالتأكيد هناك ظروفٌ ومواقف تستدعي الدعم والتدخل ممن حولها وأولهم الزوج والأسرة،فليس من العدل أن تظل الأم بلا نوم طوال الليل ترعى طفلاً مريضًا ولا يساندها أحد، ثم عليها أن تبدأ يومها لتجهيز الأبناء للمدرسة، ثم القيام بكل الأعمال المنزلية، إنها بشر وليست آلة، كما ليس من العدل أن تكون هي وحدها مسؤولة عن متابعة دراسة ومذاكرة الأبناء، والقيام بكل الأعمال المنزلية.
المشاركة هنا والإسهام في غاية الأهمية، وتوزيع وتقاسم الأدوار والمسؤوليات من شأنه أن يخفف على الأم ويجعلها في وضع أفضل، وباختصار الأم المجهدة المستنفدة نفسيًّا ومعنويًّا في الغالب ستكون حادة وعصبية وساخطة على من حولها ولا دافع لديها للاستمرار، بينما المشاركة والإسهام ممن حولها في تخفيف الضغط النفسي والمعنوي عنها سيجعلها ممتنة ومتوازنة، وهذا ليس فضلًا منهم، بل هو واجب، لكن للأسف يتحاشى الكثير من الأزواج المساهمة والمشاركة ببعض المهام حفاظًا على مساحته الخاصة التي اعتاد فيها أن يكون مع أصدقائه أو نائمًا، أو حتى جالسًا لا يقوم بشيء.
يقدم الخبراء وأصحاب التجارب العديد من النصائح والتوجيهات للأمهات يمكن أن تساهم بقدر معقول في جعل الحياة والمسؤوليات أقل ضغطًا عليهن، ويجعل رحلة الأمومة أكثر سلاسة وأقل تبعات، وفي الحقيقة الأمومة لا تتطلب منا أن نكون كاملين بقدر ما تتطلب منا أن نكون حاضرين، ومتفهمين ونتعامل بوعي وليس بقسوة مع أنفسنا، ومع من حولنا، وتحمّل ما هو فوق طاقتنا، ومن تلك النصائح والتوجيهات:
– التنظيم والتخطيط المسبق، وهو يمنع الكثير من الفوضى، وتنظيم الوقت يساعد على ترتيب الأفكار والأولويات، والأسبوع هو الوحدة الملائمة للتخطيط، ولا بد أن تكون الخطة مرنة وواقعية، ويمكن ألا تطبق حرفيًّا، وهذا لا يجب أن يحبطنا، لكن بالتأكيد سيساعد كثيرًا، والتجربة أكبر برهان.
– تحديد الأولويات ووضع الأهداف الواقعية، وهنا نقول: قليل دائم خير من كثير، ومن أكثر الأمور التي تفسد خطة تنظيم الوقت “المثالية”، وإدارة الوقت بشكل جيد تحتاج إلى تركيز، فمن السهل وأنتِ تضعين خطتك أن تكثري من المهام، ولكن التطبيق شيء آخر، والعبرة دومًا بالكيف وليس بالكم.
– التفويض: من السهل أن نقوم بالأعمال بدلاً عن أطفالنا، نطعمهم بدلاً من أن يطعموا أنفسهم لنضمن أداء المهمة في أقصر وقت وأقل قدر من الفوضى، نلبسهم بدلاً من استغراق المزيد من الوقت في محاولات ارتداء الملابس بأنفسهم، وأن نذاكر لهم كل شيء، وأن نسارع إلى التدخل وحل المشكلات بين الأطفال حتى ينتهي الصراخ والجدال بينهم، كل هذه التصرفات أخطاء نتحمل تبعاتها لاحقًا، لأنهم سينشأون كسالى معتمدين علينا باستمرار، كما أنها تحرمهم من الشعور بالحرية والاستقلال وتطوير المهارات الذاتية، لهذا فوّضي ما يمكنك من المهام، وليتحمل كل فرد في البيت مسؤوليات تزداد مع زيادة العمر والقدرات، وساعديهم على تطوير قيم التعاون بتقسيم الأعمال إلى مهام بسيطة، ومكافأتهم عليها معنويًّا بالمدح والتقدير.
– التمييز بين ما يمكن عمله مع عمل آخر في الوقت نفسه، وما يحتاج إلى تركيز.. على سبيل المثال: مراجعة بعض الدروس مع الأطفال أثناء القيام بعمل البيت.
– تعلمي قول لا، وخصوصًا الأمهات اللاتي اعتدن على إرضاء الجميع، والحرص على مساعدة الجميع، وهذا أمر ضروري لإدارة الوقت، لا تخافي من أن تسبب “لا” خيبة أمل للبعض، لأنك إذا قلتِ “نعم” وضعتِ نفسك في ورطة ثمنها المزيد من المهام والأعمال، بينما “لا ” تضع حدًّا لذلك، وتجعلك تركزين على الأولويات.
– اختصار الوقت، وهنا نقول كلما يختصر الوقت صديق، ويستحق الاختيار مثل وصفات الطعام السهلة والأجهزة المساعِدة، ويمكن أن نبحث عن أسرع الطرق للوصول.
– الروتين اليومي والأسبوعي هو المفتاح الذهبي لتنظيم الوقت، ويوفر الطاقة الذهنية للتخطيط كل يوم، ويخلصنا من الإجهاد، والروتين مفيد للجميع الكبار والصغار، ومن الأهمية بمكان وضع روتين لتفاصيل حياتنا: الاستيقاظ والنوم، الأعمال المنزلية، الترفيه، وكل التفاصيل.
– الفصل بين مهام الأمومة والعمل: وبقدر الإمكان لتكن مهام الأمومة في البيت، ومهام العمل في العمل، وإن كان لا بد فبأضيق الحدود، وبترتيب.
– ساعة الأمهات: والعديد من الأمهات حول العالم جربن هذه الحيلة للحصول على وقت خاص لهن في ظل الانشغال ومطالب الأسرة، من خلال الاستيقاظ ساعة أو ساعتين قبل الآخرين، لكن المهم ألا تضيعيها في المهام التي يمكن القيام بها في ظل ضجيج الأطفال، ووجود الآخرين، مثل تنظيف المطبخ، وترتيب البيت، هذه الساعة ثمينة جدًّا.. هي وقتك للاسترخاء وترتيب أولوياتك، والتفكير في أهدافك، تناول القهوة مع تصفح كتاب، يمكنك حتى الاسترخاء في هدوء بدون فعل أي شيء استعدادًا للحياة اليومية المليئة بالمطالب والأعمال بنشاط وتفاؤل، وإجمالًا الوقت أثمن شيء في الوجود، وحسن إدارة الوقت وتنظيمه أمر ضروري لكل من يريد النجاح والإنجاز في الحياة، وبخاصة الأم التي تؤدي العديد من الوظائف التي لا غنى عنها في حياة أسرتها.
ليست الأمومة ورطة، كما ليست عقوبة تقضيها المرأة مدى الحياة، إنها رحلة بكل ما فيها من تناقضات وجمال ومتعة، وعناء، وبالقدر الذي تتطلب من الأمهات الكثير من العطاء والعمل تتطلب أيضًا من الجميع المساندة والدعم والقيام بواجباتهم، وتتطلب من الأمهات أولاً وأخيرًا ألا يلغين أنفسهن في هذه الرحلة، فالجميع بلا استثناء يحتاجون العمل والنجاح والراحة، والترفيه، والتقدير والامتنان.
* أكاديمية وكاتبة يمنية.
تعليقات