Accessibility links

إعلان
إعلان

فكري قاسم *

العمارة التعيسة اللي سكنت فيها قبل أعوام أطلق عليها سكانها اسم عمارة “أعوذ بالله” !، مش لأنها مسكونة بالجن، كما قد يتصور البعض، ولكن لأن صاحبها نفسه جني من حق الجن، ويتعامل مع المكتريين منه في نهاية كل شهر بنظام المقايضة السريعة. 

يعني: ما فيش معك إيجار هذا الشهر؟ خلاص يا مواطن, اقطبني ذلحين فيسع، وهات ما معك في البيت (دبب غاز، سرير، موكيت، تلفزيون، جوال، مفارش، أدوات طبخ، ثلاجة، بوتجاز).. المهم أي حاجة لها ثمن هاتها له مقابل ما عليك من إيجار، وإلا فإن يومك معه شيكون يوم جن، لا سمح الله. 

ولأنه كذلك، سميته بين الجيران “المهاتما معك”، وهو سبعيني سمين، بينه وبين المهاتما غاندي بعض الأشياء المشتركة..

المهاتما غاندي طرد المستعمر من بلاده وحررها، وصاحبنا المهاتما معك هو الآخر طرد المستأجر من داخل العمارة لمتأخرات عليه، وشل عفشه، ولعب أطفاله، وحرحر به ملان الحارة.

وهكذا يفعل دائمًا مع كل مستأجر طفران لا يدفع الإيجار أولاً بأول، يطرده بكل عنفوان، وهو ينشد أمامه بصوت ثائر يغني: 

بَرَّع يا طفران.. بَرّع

من بيت الإيجار.. برّع

برّع وإلا الليلة شيقع لك سحبال.. بَرّع.

حدث في إحدى المرات وطلبني إلى عنده في البيت  لأمر قال إنه مهم جدًّا.. وخير اللهم أجعله خير.. ذهبت إليه وأنا متوجس من الاستدعاء، وخائف يقول لي إنه قرر يرفع الإيجار.

ولما وصلت إلى بيته كان مخزن في ديوانه الكبير، يلوك عجينة القات بجهتي فمه، وأول ما شفت وجهه المستدير محشورًا بين بجمتين عن شمال ويمين، ظننت أنه عامل في وجهه شعار الفضائية اليمنية القديم (يمن).

المهم.. صاحبنا يومها كان “مُكيف”، وآخر انبساط، ويشتي مني كصحفي أن أكتب عن دوره النضالي في إشعال ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيد، وقال يكلمني بأنه كان من اوائل الضباط الأحرار، لكنه منسي تمامًا من هذا التاريخ البطولي، ويشتي يعمل أي شيء يذكّر الناس به، وبأدواره البطولية المنسية. 

وكأي مستأجر خائف من أن يتعرض في يوم إلى الطرد من العمارة بنفس الطريقة التي قام بها صاحبنا المناضل “هات ما معك” مع مستأجرين كثر من قبلي، نفخته يومها فوق ما قدو منفوخ أصلاً، وقلت له أنت أبو الثوار كلهم، وحلفت له يمين “دسنتاري” مغلظ بأنني لم أختر السكن في عمارته المباركة أصلاً إلا عشان أبقى قريب من رجال الثورة الأوفياء، وعشان أحقق لنفسي ولو ربع الحظوة التي حققها لأنفسهم صحفيون وفنانون كثر حال اقترابهم من رجال الثورة. 

وضربت له أمثلة عن الموسيقار محمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وهيكل، وناس كثير عاشوا نعيم القرب من الثورة المصرية وأمضوا حياتهم مستورين في عيشة هنية داخل بيوت وفلل دون أي خوف من طرقات يد المؤجر نهاية كل شهر.

هز رأسه مرارًا وأنا اتكلم معه، تمامًا كما لو أنه كان معجبًا بالفكرة اللي أشتي أوصلها له،  وكان مبسوط من شهادتي حول ثوريته المنسية، وسألني: 

– تقول ذلحين كيف اعمل منسب أذكّر الناس بدوري المهم في ثورة ٢٦ سبتمبر؟ 

وأظهر لي ندمه الكبير لأنه استعجل في إشعال فتيل الثورة، وعد باقي لنهاية الشهر أربع أيام، وقال يكلمني بنفس الحسرة:

– هو الخطأ فيني أنا.. لو زد صبرت أربع أيام بس،  وخليت الشهر يكمل، ألفاتنا وقعت رجال، واستلمت إيجار ثورتي وقلبي بارد ومرتاح.. لكن حمران العيون ااااح منهم بس قطبوها فيسع قبل ما يكمل الشهر.

واسيته، وقلت له: 

– سهل يابو الأحرار.. واحمد الله.. أنت أحسن من غيرك، وخرجت لك من الثورة بعمارة حالية ما شاء الله عليها.. غيرك من الثوار عادهم لليوم ساكنين في بيوت إيجار. 

– أيوه الحمد الله.. ما قلنا شي.. لكن حرام ينسوا دوري حق يوم ٢٦ سبتمبر. 

رد موضحًا، وأردف يقول بصوت مطفوح: 

– والذي فاكدني أن المكتريين في العمارة كلهم ولا واحد فيهم داري أنني من الثوار إلا أنت وبس، واشتيهم يكونوا يذكروني كلما يجي عيد ستة وعشرين سبتمبر، ويتذكروا أني من أوائل الثوار.

فهمت نفسيته المفتهنة مع عجينة القات التي يقلبها بين ضفتي لقفه، وقلت له: 

– ذلحين احنا في يوم خمسة وعشرين من شهر سبتمبر، وباقي يوم بس ويجي العيد.. ما رأيك لو تعلن لسكان العمارة إن شهر سبتمبر من كل عام، شيكون من الآن وطلع  شهر سكن مجاني من دون أي إيجار تكريماً منك للثورة، وبهذا شتكون عندهم أبو الثوار، وأبو الأحرار، وقائد الثورة بكلها لو تشتي. 

– هاااه.. هي كذه؟ 

رد على مقترحي وهو يهز رأسه ويشوف وجهي بتمعن، وشعرت بأنه ارتاح تمامًا للمقترح، وغادرته من بعد ذلك، ونفسيتي مرتاحة، ورجعت إلى شقتي في العمارة وقلبي مطمئن ومتأكد ألف في المائة أنني وجميع سكان العمارة سنعيش نعيم القرب من رجال الثورة، ولن ندفع أي إيجار لشهر سبتمبر مدى الحياة. 

ولأول مرة على أية حال من حين استأجرت في عمارته أشوف التاريخ يقترب من موعد دفع الإيجار ولا أشعر حياله باكتئاب الدورة الشهرية، ولأول مرة أيضًا أشعر بأن آخر الشهر أصبح خصم ضعيف أمامي.

ورقدت ليلتها بنوم عيني، وانا هادئ جدًّا ومسترخي  في نوم عميييق كالبحر، وزارني في المنام طيف صاحبنا الثائر، وشفته يخرج من قمرة قيادة الدبابة التي ضربت دار البشائر في أول يوم لثورة الـ26 من سبتمبر المجيد سنة ١٩٦٢.

كان لابس بدلة ميري زي حق الرئيس “السلال” واقف في فم الدبابة بشموخ، يلوح بيده لسكان العمارة يحييهم من فوق الدبابة، ويقول لهم: 

– اسكنوا في العمارة براااحتكم.. لا خوف من الإيجار ولا هم يحزنون.. كان للمه قمنا بالثورة؟ إلا منسبّكم ومنسب تعيشوا آمنين. 

ثم اقترب مني ونزل من فوق الدبابة ومد يده يصافحني، وقال يسألني بصوت جهوري قارح: 

– هيا كيف سوا هكذا أو ماشي؟ 

رديت عليه بارتباك، وقلت له: 

– وضح لهم إن شهر سبتمبر من كل عام مسامح من الإيجار تكريمًا لثورة ٢٦ سبتمبر المجيدة.. وقال متحفزًا: 

– يا ضاك السنة كلها من دون إيجار.. إحنا ثوار ما نشتي ولا إيجار.. وأجرنا عند الله مش عند الآدمي. 

– طيب وأجرة العسكري الذي كنت ترسله للمستأجرين آخر كل شهر منسب يشل الإيجار، كيف نعمله  

زعل من سؤالي واقتلب وجهه وخبط بيده ذيك الساع على قمرة الدبابة، وصاح يقول لي: 

– عسكري مه؟ هذا كان زمااااان قبل الثورة.. ما ذلحين لا وألف لا.. ما بش أجرة عسكري ولا به شي من هذا الهدار، قلنا ثورة مش لعبة. 

وتحركت الدبابة من أمامي أنا وسكان العمارة وهو واقف فوقها بنفس الشموخ الثوري، بينما كانت أصواتنا تهتف له: بالروح بالدم نفديك يا ثائر.

يا سلاااااام.. ما أجمل أن يشعر المرء بدفء وحنان الثورة في حلم منعش وجميل، وقالت أمي بأني يومها كنت نائمًا وانا مبتسم فوق الفراش داخل البيت في عمارة أعوذ بالله، ويومها طبعًا لم توقظني حرارة شمس الظهيرة التي نطت إلى وجهي من طاقة الغرفة، بل أيقظني صراخ الجيران في العمارة، بينما كانوا في مواجهة حامية الوطيس ذيك الساع مع العسكري المعتاد الذي يجمع من السكان الإيجار نهاية كل شهر. 

وما هو وكيف وأيش الذي حصل؟

فزيت من نومي على صراخ مسموع ملان العمارة وقمت أجري أشتي أعرف أيش في؟ وتدليت بجسمي من طاقة الغرفة إلى الشارع وشفت الجيران محوشين يتصايحوا مع العسكري “مرشد الثورة”، ويقولوا له: 

– طيب خلاص شندفع الإيجار آخر الشهر زي كل مرة، ما له عجل يشتي مننا الإيجار وعاد الشهر ما قد كمل؟! 

قلت اتكلم من الطاقة: 

– أيش من إيجار وصاحب العمارة من الثوار؟

رد العسكري ساخرًا يسألني: 

– اليوم تاريخ كم من الشهر؟ 

– اليوم عادوه ٢٦.

رديت عليه وقال يسألني بنفس اللهجة الساخرة: 

– أيوه والثورة يوم أيش قامت؟ 

– يوم ٢٦.

– أيوااااه.. وصاحب العمارة هو من الثوار أو ماشي؟

– إلا من الثوار ! 

– ولأنه من الثوار قال ما بلّا لازم على السكان من ذلحين وطلع أن يحتفوا بالثورة الذي حررتهم ويكونوا يدفعوا الإيجار مقدمًا يوم ٢٦ من كل شهر، تخليدًا لذكرى الثورة المجيدة.

وفي نهاية كلام العسكري، مرشد الثورة، مع سكان العمارة قال محذرًا، بلهجة تهديد، أن من سيتخلف عن ذلك فإن مصيره سيكون الطرد من العمارة، تمامًا كما سبق وأن تم طرد بيت حميد الدين من داخل البلاد بأكملها.

لحظتها فقط عرفت بأن الأحلام الوردية لا تتناسب مطلقًا مع أطماع المؤجرين الثورجيين، وشعرت يومها فقط، أنا وسكان العمارة، بأننا محظوظين لأننا ساكنين في عمارة مؤجر لم يخرج مع الأبطال الذين فجروا ثورة ١٤ أكتوبر المجيدة، وإلا فإننا كنا سنعيش جحيم القرب من الثورة بمنتصف كل شهر !

* كاتب يمني ساخر.

   
 
إعلان

تعليقات