عبدالوهاب سنين*
“ذكريات الأمكنة” رواية للكاتبة المصرية آية ياسر، تقع في 287 صفحة، ونشرت في دار العهد للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2021م، وهذه الرواية الثالثة للكاتبة التي لها باع في العمل الصحافي، وعلاوة على كتابات في أدب الطفل.
من خلال العنوان يرى القارئ مدى تعلق الدال بمدلوله، إذ هو بمثابة الرأس المتصل بالجسد، وهذه العلامة السيميولوجية يقف عندها القارئ، لغرض استجلاء الرواية واستنطاقها بصريًّا ولسانيًّا، من خلال العنوان الدال على هوية النص، حيث تجد اختزال دلالات ومعانٍ، تُعد بمثابة المفاتيح الكاشفة التي نصل من خلالها إلى عتمة النص الغائر، فلا يستهين القارئ بحرفية العنوان؛ إذ هو البؤرة السيميولوجية على رأي سوسير الفرنسي، والسيميائية على رأي بيرس الأميركي، التي من خلالها تبرز العلامات الدالة على الحكي، ولا يدل العنوان على الذكريات للفضاء المكاني فحسب، وإنما الذكريات التي تسكن الأرواح البشرية.
البناء السردي
كان البناء متماسكًا، في المضمون والشكل الفني، حيث تجد شخصيات الرواية لها حضور في ذهن القارئ سواءً أكانت الشخصية رئيسية كـ كوثر، أم ثانوية كصالح والد عنبر، وتركت الكاتبة العنان لشخصيات الرواية، في التعبير عن مكنوناتها، ولم يشعر القارئ بتدخل الكاتبة في شؤون تلك الشخصيات، وهو ما أثرى المتلقي، ورأى تلك الشخصيات الورقية تتحول إلى شخصيات من لحم ودم تعبّر عن الواقع المعاش، وكان الحضور لشخصية المرأة حضورًا لافتًا، إذ توغلت الكاتبة في البنية السوسيولوجية، ودراستها عن قرب، من ذلك اختلاف الأعراق في المجتمع المصري، حيث كان أحد أبطال الرواية رشوان، وهو عمود الأسرة الشركسية المصرية، واقترانه بعنبر الفتاة النوبية السمراء، ومن بعدها توركان التركية، وإن كان ارتباط رشوان بعنبر أتى عن طريق المصلحة لا الحب، وهذا فيه تصوير اختلاط الأجناس، وذلك في البنية الاجتماعية الحاضنة لذلك التنوع، كما نجد مدى التعايش بين أفراد المجتمع، بمختلف أعراقهم ودياناتهم، ونرى ذلك عند هجوم إسرائيل بالطيران على مصر عام 1948م، إذ نرى الكاتبة وضعت عبارة تدل على جمال التعايش ((أحد المسنين صاح قائلاً: يمكننا الاختباء في المعبد اليهودي بحارة اليهود، لن تتجرأ الطائرات الإسرائيلية على قصفه أبدًا)) صـ30
كانت أحداث الرواية مشوقة، على مدار فصولها الـثلاثة والعشرين، وكان الفضاء الزماني والحكائي في تلك البوتقة السردية لا تنافر بينهما.
الحبكة
اتسمت الرواية بحبكات مصيرية، لكنها كانت مفتوحة لا ألغاز فيها، والحبكة لابد لها من ارتداء الغموض، وهذا ما يراه أدوين موير، وتمر الرواية عبر أحداث متصاعدة، وشخصيات لصيقة بتلك الأحداث، وتوحي الرواية بتبدلات في المجتمع المصري، يسيطر عليه التمييز الطبقي، المتمثل في شخصية كوثر، ومدى صلفها في تعاملها مع زينب ووالدتها عنبر.
في هذه الرواية جلّت الكاتبة ثيمة الصراع، الذي خاضته المرأة في معترك الحياة، في مجتمع شرقي متصلب، ويشعر القارئ بتعرية السطوة الذكورية، المتمثلة في شخصيتي وليد وفريد، وانخراط الأول في حب الذات، والثاني في الخيانة وإحلال الفجوة الأسرية، التي يمارسها الكائن البشري التدميري لكل معاني الإنسانية.
واستطاعت الكاتبة في هذه البوتقة السردية، الاشتغال على العامل السيكولوجي وتبدلاته في حياة كوثر، التي مرت بصدمات عنيفة جعلت منها، امرأة تخللتها السيكبوتية نتيجة عصاب نفسي أثّر في توازنها العقلي، التي تفاعل معها القارئ وتعاطف نوعًا ما مع هذه الشخصية… والاشتغال على العامل النفسي داخل الحياة المجتمعية مهم، ومدى ارتباط الشخصيات بذلك – حسب تودروف – في (مفاهيم سردية)، حيث تناولها من جوانب عديدة، ومنها جانب الشخصية وعلم النفس.
وكانت شخصية زينب أنموذجًا للمرأة المتطلعة، في الترقي في الطلب العلمي، وانتكاستها في الحياة الأسرية، واصطدامها بواقع التفكيك الأسري والانحراف لأحد أبنائها جراء انبهاره بمجتمع يختلف عن مجتمعه المصري، فكانت أميركا بالنسبة له فضاءً مختلفًا، فخاض تجربة عشق فاشلة. كما رأينا فائدة علم النفس في شخصية زينب، التي جلّتها الكاتبة للمتلقي، وجعلته يرى التقلبات التي تحيط بالمجتمع، إذ كان التصوير للمشهد مؤثرًا، فترك لدى القارئ الحرية في انفعالاته، أما شخصية مراد فكانت فاعلة، ومن خلال تلك الشخصية التي تجسدت للقارئ، وجعلته يرى مدى توسع الطبقية الاجتماعية بين الطبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا المطحونة والمقموعة.
التجنيس الروائي
الرواية ارتدت معطف التاريخ، إذ كانت الكاتبة على وعي في سرد حقب تاريخية مختلفة، وتخلل تلك الحقب الحروب، التي روتها مرورًا بأحداث السادس والعشرين من يناير 1952م، التي شهدتها القاهرة، وانفصال السودان عن مصر 1955م، مرورًا بأحداث بودابست التي هتف العمال ضد رئيس الحكومة، بالموت للشيوعية والسوفييت، وفي تلك البوتقة السردية ذكرت حرب اليمن إبان العهد الملكي، كل ذلك في قالب سردي روائي، ولم يشعر القارئ بفجوة بين الفضاء الزمني الروائي وزمن الحكي الملفوظ أو المكتوب، التي عرضت الكاتبة من خلاله الحوادث، وبذلك نرى الرواية تسير سيرًا تراتبيًّا في مسرح الأحداث، وأعتقد أن الرواية ارتدت العباءة المحفوظية، ولا غرابة؛ فنجيب محفوظ مدرسة لمثل هذا النوع من الأعمال الروائية، ومع ذلك كانت الروائية قد استطاعت أن تسير على الخط الروائي المرسوم.
خاتمة الرواية
الرواية بدأت بالمرأة وتنتهي بالمرأة، إذ جلّت الكاتبة المرأة المحطمة عاطفيًّا في شخصية بسمة، ولكن ضمها لكتبها إلى صدرها، فيه دلالة سيميائية على تعويض تلك العاطفة، بانفصالها عن حبها الوهمي، وسعيها إلى الترقي في المسار العلمي، ونرى ذلك في المقطع الأخير ((سرت قشعريرة باردة في جسدها، فضمت كتبها إلى صدرها، وعانقت ذراعيها بكفيها، ملتمسة الدفء.. تابعت المسير ولم تتوقف لتنظر خلفها))صـ287
وهذا المقطع التي أسدلت بعده الكاتبة الستار، معلنة انتهاء الرواية بطريقة دراماتيكية، وكأنها تحث المرأة الشرقية على المثابرة في التحصيل العلمي، ويعد ذلك في مجتمعاتنا الشرقية سلاحًا في يد المرأة، لذا اختارت بسمة التقدم في مسيرتها وضمت كتبها، وكأنهم أولادها التي ستجد من خلالهم السند، في معترك الحياة المريرة التي تواجه المرأة.
التقنيات المستخدمة في الرواية
اعتمدت الكاتبة كثيرًا على (الاسترجاع)، أو ما يسمى بالفلاش باك، وهذا الفن الحديث نُقل إلينا من السينما، وتم استخدامه في رواياتنا العربية، والفلاش باك هو العودة إلى الماضي، والانفصال عن زمن السرد، وهذه التقنية أتت بثمارها في خدمة النص السردي، حيث استطاعت المحافظة على مسار الأحداث.
التقنية الثانية (التشكيل التبوغرافي)، وتستخدم في الكتابات الحديثة، ومنها الرواية، وهي تأتي بأشكال متعددة منها الخط البارز أو المائل، والغرض من هذه التقنية هو التمييز لحدث مهم وبارز يظل في ذهن القارئ، ومن ذلك الرسالة التي أرسلها سمير لزوجته كوثر صـ26-27، انظر (بنية النص السردي) للدكتور حميد لحمداني صـ59
وفي الأخير أدعو كل من له اهتمام بالرواية، لقراءة هذا العمل السردي، وربما سيرى ما لم أره.
*كاتب يمني.
تعليقات