بلقيس محمد علوان*
سبعة أعوام من الحرب أوشكت أن تكتمل، ألقت على عاتقنا نحن النساء الكثير، ومن مكاسبنا التي حظينا بها منذ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م أفقدتنا الكثير أيضًا، ولم يكن ما تحقق للنساء يتسم بالكافي ولا المُرضي عنه قياسًا لاحتياجاتهن وسوء أوضاعهن التي لم يطرأ عليها، وخصوصًا في الريف، التغيير المطلوب.
تجد المرأة نفسها في قلب الحدث، وأمام الأمر الواقع مثقلة بالمهام والمسؤوليات التي يجب أن تؤديها بكفاءة عالية، وفي الريف على وجه الخصوص يعتبر بياض ثوب زوجها الذي يكد ويعمل في الزراعة ومختلف المهن والأعمال مقياسًا لمهارتها في الغسيل، صمودها طوال اليوم في أعمال شاقة تبدأ بعد صلاة الفجر ولا تنتهي إلا لحظة خلودها للنوم مقياسًا لمهاراتها المتعددة، تحمّلها الآلام وإصرارها على الولادة في المنزل لأنهم يريدون ذلك ويعتبرونه مقياسًا آخر لقوتها وانحيازها للستر كما يعتقدون، والسمع والطاعة والتقبل مقياسًا آخر لكونها حسنة التربية وبنت أصول، وكل شيء معد لها سلفًا لتسلكه كما هو مرسوم لها، هكذا عاشت في بيت أبيها قبلاً، ثم انتقلت إلى بيت زوجها لتواصل مسيرتها بكل التفاصيل المطلوبة.
لا نحتاج أن تبتعد كثيرًا عن مراكز المدن لنصل إلى الجغرافيا التي تعيش فيها الغالبية العظمى من النساء في اليمن، حيث يعيش أكثر من 75% من السكان في الريف، أغلبهم من النساء، وسواء أكانت الزراعة أو الرعي أو الصيد مهن مناطقهن الرئيسية سنعرف أن سيناريو العناء بكل تفاصيله هو ما تقوم به في ساعات يومها.
في ظل الحرب يزداد الوضع قسوة على الجميع أمنيًّا واقتصاديًّا، وفي كل المجالات، ولكنه أشد قسوة على النساء، فقد تضاعفت المسؤوليات وزادت الضغوط، وتغيرت قائمة الأولويات، وأغلبهن أسقطن كل احتياجاتهن الشخصية التي تعني لهن الكثير في الظروف الاعتيادية: الملابس والزينة وأدوات التجميل، بل وصل الحد إلى إلغاء الدواء لأن توفير قوت اليوم وتدبير ما ستأكل الأسرة أصبح المهمة الأساسية، وهو همّ الليل والنهار للرجال والنساء على حدّ سواء.
كانت بعض الخدمات قد وصلت إلى العديد من المناطق فخففت عن المرأة بعض العناء، لم تعد تجلب الحطب ولا الماء من مسافات بعيدة مع توفر الغاز المنزلي، ووصول مشاريع المياه سواء الحكومية أو الأهلية إلى الكثير من المناطق الريفية، لكن الانتكاسة حدثت بسبب تداعيات الحرب لتتقاسم النساء الفقيرات في الريف والحضر تحمّل تبعات الحال، وفي مقدمتها الافتقار لأبسط أساسيات الحياة، والغالبية صرن فقيرات حتى أولئك اللاتي كن يعملن ويتقاضين مرتبات، أصبحن في أغلب المدن بلا مرتبات، وكثير منهن فقدن أعمالهن، واضطرت كثيرات للعمل بمرتب ضئيل، أما نساء الريف وإسهامهن في الزراعة وغيرها فهو إسهام كان وما يزال بلا أجر.
“كفاية” واحدة من نساء كثر لم ترتدِ المدرسة يومًا، تقوم بكل مهامها في البيت والأرض، وتنجب الأطفال وتربيهم، وجدت نفسها مطالبة بالعمل لتوفير ما يسد الحاجات الأساسية لأسرتها، ولكن ماذا تعمل وهي التي لا تعرف إلا العجن والخبز وطبخ الأصناف المعتادة، لم يكن أمامها إلا أن تعرض خدماتها في المساعدة المنزلية، إضافة لرعاية زوجها المقعد، وحراسة ولديها اللذين تركا المدرسة ويفكران بالذهاب للجبهة، وهي تضطر بعض الأيام حين لا تجد ما تقدمه لأسرتها أن ترجع لبقايا الخبز القديمة وتخرج ما ينفع منها وتصنع منه “فتة” بالماء والسكر وتضعها أمامهم، أو تدفع صغارها للخروج للشارع لجمع علب المياه البلاستيكية الفارغة وبيعها للعودة ببعض الخضار، ومثل كفاية تعاني مئات الآلاف من النساء من تبعات الحرب وتداعيات الوضع الاقتصادي المنهار.
لقد قصر الجميع في حقهن: الدولة والمجتمع والأسرة ومنظمات المجتمع المدني قصروا في ضمان حقهن في التعليم والتأهيل والتدريب والإعداد للحياة، وحتى في الرعاية الصحية والاجتماعية، وها هن يواجهن كل تداعيات الحرب لتستمر الحياة، ولكن بضعف وقلة حيلة، وفي حين أن ملايين النساء لم يصلهن خير الدولة فلم يكنّ أكثر من أصوات في مواسم الانتخابات تجيّش للتصويت للمرشح المطلوب فوزه، ها هن يدفعن الثمن في الصراع الحالي: فقرًا وحزنًا وخوفًا، ومرضًا وتدنٍّ كبير في الخصائص السكانية لم يسبق له مثيل.
أغلب النساء في اليمن لا يعرفن شيئًا عن “السيداو”، ولم يسمعن بالقرار “1325”، وهو أول وثيقة رسمية وقانونية تصدر عن مجلس الأمن يطلب فيها من أطراف النزاع احترام حقوق المرأة ودعم مشاركتها في مفاوضات السلام وفي إعادة البناء والإعمار التي تلي مرحلة النزاع والصراع، نعم ملايين النساء في اليمن لم يسمعن بهذا القرار، ولا يعرفن ما معنى ” التمكين”، و”الكوتا” لا تعنيهن في شيء، وبالمقابل تكسبت منظمات المجتمع المدني من طرح قضايا النساء وتناولها والتركيز على قضايا دون أخرى لا لشيء ولكن لأنها قضايا بلا دعم أو تمويل، والدعم والتمويل هو المحرك الرئيسي لتبنّي قضايا النساء وأيّ قضايا أخرى بالنسبة لأغلب المنظمات، وهذه الانتقائية جعلت العائد من جهود المنظمات المحلية ومن ورائها الداعمين لا يتعدى بعض التأثير الوقتي، والموسمي، وجغرافيًّا لا يتعدى أطراف المدن في أحسن الأحوال.
لم يعد الريف ريفًا منتجًا، وتريفت المدن بشكل متسارع في السنوات الأخيرة وفي مدن كثيرة ومنها العاصمة صنعاء عادت النساء ليحتطبن ويوقدن تناويرهن لإعداد الطعام والخبز، يحرقن الحطب والمخلفات، ومعه تحترق مكتسبات كانت قد بدأت تشرق.
ومع مخرجات الحوار الوطني فيما يخص النساء كنا رفعنا سقف توقعاتنا إلى الحد الذي اعتقدنا أن سنوات عشر تكفي لتغيير المشهد، في التعليم والصحة والحقوق والحريات، لكن النساء اللاتي كانت قضاياهن دائمًا في ذيل القائمة، تلك القضايا تظل أيضًا أول ما يتم التضحية به عند التحاور أو الاتجاه للحلول، وعلى مستوى الكلفة، صحيح أن الجميع يتكبدها، لكن من الواضح أن النساء يدفعن الفاتورة الأكبر غير مؤهلات إلا بالصبر والمثابرة والتقبل التي طالما كانت سلاحهن.
*أكاديمية وكاتبة يمنية
تعليقات