عبدالباري طاهر*
القاضي عبدالرحمن الإرياني أحد أهم الآباء الروحيين للحركة الوطنية لأكثر من نصف قرن، فهو من مؤسسي جمعية الإصلاح في إب، منتصف أربعينيات القرن الماضي، وتحديدًا عام 1944م، ومن رموز حزب الأحرار في عدن 1944م.
عُيِّن حسب تشكيلة المناصب في الميثاق المقدس (دستور حركة 1948)، سكرتير مجلس الشورى الذي رأسه سيف الحق إبراهيم.
اعتُقل مع العشرات من رفاقه الأحرار في سجون حجة الرهيبة، وكان سيف الجلاد يتربص به بين لحظة وأخرى.
خرج من الاعتقال في العام 1954 ليتولى، إلى جانب رفاقه: أحمد محمد الشامي وإبراهيم الحضراني، دعوة البيعة لولي العهد محمد البدر التي قام بصياغتها، وهي البيعة التي قسمت الأسرة المتوكلية الإمامية إلى: بدريين، وحسنيين، وفتحت ثغرة في جدار الأسرة المالكة.
اعتُقل في انقلاب 1955 الذي قاده الشهيد أحمد يحيى الثلايا، والشهيد سيف الإسلام عبدالله أخو الإمام أحمد، ولولا تدخل بعض المقربين من الإمام لكان قد لقي مصرعه، وكان هذا ثالث اعتقال، فالاعتقال الأول كان في 1944 عندما اعتُقل مؤسسو الحركة الإصلاحية في إب.
كان المرشح لرئاسة الجمهورية في ثورة 26 سبتمبر، لكنه رفض عندما لاحظ حضور عبدالرحمن البيضاني المدعوم من مصر، واستبعاد الزعيمين: الزبيري والنعمان، وهما المؤسسان الأساسيان لحزب الأحرار – الحركة الوطنية الأم، وللجمعية اليمنية الكبرى في 1946م.
القاضي عبدالرحمن عالم دين مستنير، ومن أسرة عريقة تحترف القضاء، وكان هو نائب الهيئة القضائية العليا، ورأسَ كثيرًا بعثة الحج، كما مثّل اليمن في المؤتمرات الإسلامية، وكان شجاعًا في رفض الحملة السعودية لتكفير عبدالناصر والاشتراكية، وهي الحملة التي جاراها الإمام أحمد بقصيدته الشهيرة “نصيحة تهدى إلى كل العرب”.
عيُّنَ بعد الثورة السبتمبرية 1962 وزيرًا للعدل، وكانت له انتقادات على التفلت والفوضى، وأحكام الإعدام الجائرة بدون محاكمات.
رافقتُ أكثر من مرة أستاذنا ثابت بهران لزيارته، وكان شديد التبرم والانتقاد للممارسات الخاطئة.
منذ الشهور الأولى انضم لدعوة الإصلاح التي قادها أبو الأحرار محمد محمود الزبيري والنعمان وآخرون، وكان رأيه دائمًا محل توقير وقبول.
رأسَ مؤتمر خمر، وكان رأيه متميزًا لمعرفته بالتركيبة القبلية، وتهافت كبار المشايخ على الذهب والسلاح السعودي، وقراءته لجشع المشايخ حاضرة وقوية، كما أن صِلاته المباشرة بالنظام السعودي من خلال إمارة الحج المتكررة، والاطلاع على صراعات الأسرة وموقفها من اليمن قوية أيضًا، كما أن ملاحظاته على تجاوزات القادة المصريين كعبدالحكيم عامر، والسادات، وقادة القوات العربية: أنور القاضي، وكامل مرتجي، والآخرين، ظاهرة، إلا أنه يتعاطى بحكمة ومرونة وحذر مع هؤلاء العتاولة، مقدرًا أهمية النجدة القومية المصرية، وخطورة تدفق المال والسلاح السعودي، وجشع شيوخ القبائل.
كان الزبيري شديد الحساسية إزاء النجدة القومية المصرية، وقد عبّر عنها في روايته “جزيرة واق الواق”، أما الأستاذ النعمان، فكان شعوره بالغبن كبيرًا، سواء من رفاقه الأحرار، أو من تقديم البيضاني، وكذا منعه من العودة إلى صنعاء للمشاركة في منجز الحركة الوطنية التي كان النعمان الصانع الأول لها، بحسب تسمية رفيقه أبو الأحرار محمد محمود الزبيري.
كان القاضي عبدالرحمن الإرياني شوكة ميزان في الخلافات والصراعات التي شهدتها ثورة سبتمبر. انحاز لحركة الإصلاح التي كان أهم دعاتها، ولم يقطع حبل التواصل مع المشير عبدالله السلال – قائد الثورة، ولا مع خصومه من الضباط والمشايخ.
انتقد ممارسات القيادة المصرية وهيمنتها على القرار السياسي، وتوسيع دائرة الحرب، وتشجيع دعوات الطائفية، والعمل على نقل الصراعات القومية وخلافاتها إلى اليمن، والدعوة للاشتراكية في بلد يتأهب لدخول العصر الحديث، وفيه الجهل، والمرض، والفقر حكام حقيقيون، إلا أن انتقاداته لممارسات القيادة لم تمنعه من استمرار التواصل معها، ومصارحتها وجهًا لوجه، وتقديم عشرات الرسائل إليها، والتي تمثل قراءة عميقة، وتوثيقًا حقيقيًّا للأحداث وطبيعة الصراعات، ونقد الشطط والتطرف والرهانات السياسية غير المدركة لطبيعة الأوضاع لدى الشباب، بالإضافة إلى جموح كبار الضباط والمشايخ والنافذين للفساد والاستبداد والتسلط.
أدرك القاضي باكرًا خطورة الحرب وأثرها المدمر على اليمن، وإفادتها أو تغذيها من الأخطاء الفادحة، بل الجرائم في الإعدامات، والحماقات الثورية، والشعارات الزائفة، وتدفق السلاح والذهب السعودي، وأدرك مدى خطورة دعوات الحرب، ونقل الصراعات العربية إلى بلد فقير وخارج من مغارات القرون الوسطى.
تقع مذكرات القاضي عبدالرحمن في ثلاث مجلدات بالقطع الكبير. يقع المجلد الأول في 591 صفحة، مزدانًا بالوثائق والصور، ومقدمة ضافية للأستاذ مطهر علي الإرياني، أما المجلد الثاني فمكون من 733 صفحة، وهو أيضًا مشتمل على وثائق وصور عديدة، أما المجلد الثالث فيقع في 840 صفحة، مزدانًا بالصور والملاحق.
يغطي المجلد الأول الفترة من 1910، وحتى العام 1962م، أما المجلد الثاني فمكرس للفترة من 1962م، وحتى العام 1967م. ويتناول المجلد الثالث فترة الــ 5 من نوفمبر1967، وحتى العام 1972م.
قرأتُ المجلدات الثلاثة فور إهدائها من العزيز عبدالملك عبدالرحمن الإرياني، وحرصتُ على القراءة فقط دون تدوين أية ملاحظات؛ لأهمية المذكرات، وإغراء الاطلاع على تفاصيل أجهلُ الكثير منها.
ما يميز مذكرات القاضي العلامة عبدالرحمن الإرياني أنه عاش في قلب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في المتوكلية اليمنية التي كان فيها قاضيًا، ونائبًا للهيئة القضائية العليا، ثم قريبًا بمستوى معيّن من الإمام وولي العهد والحاشية، وعلى صلة عميقة بدعوات الإصلاح التي هو رمز من رموزها، وأحد صنّاعها، وكان في قيادة الثورة السبتمبرية، ومحورًا من أهم محاورها.
كان المختلفون والمتصارعون ينظرون إلى القاضي الإرياني كأبٍ وحكم ومرجعية، والأهم أنه دوّن الأحداث بلحظتها في كل المراحل، فجاءت مذكراته راصدة للوقائع والأحداث بقدر كبير من الموضوعية والاتزان والعقلانية في قراءة الأحداث وتحليلها.
في القراءة الثانية سجلتُ بعض الملاحظات، وكتلميذ قارئ ليس غير، والمذكرات تفتح أبصارنا على رؤية الخبيء في الوقائع، وأبعادها، وتجيب عن الأسئلة المضمرة في الأحداث، والتي غالبًا ما تكون هي الأساس.
* نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق.
تعليقات