نص سردي*
وجدي الأهدل**
استعدتُ وعيي في المستشفى مصاباً بجروحٍ خفيفة في الرأس والكفين اللذين شعرتُ بحكّة فيهما.
دلفت ممرضة هندية وحقنتني في ردفي، ثم غيَّرت لي الشاش الأبيض المربوط على رأسي وضمادات كفيّ.
وهي تفعل ذلك لاحظتُ نتوءين غريبين ينز منهما الدم أسفل البنصرين، ولفتَ نظري أن خطوط كفيّ رجعت طبيعية.. خط الحياة ظهر من جديد، وخطا العقل والقلب انفصلا عن بعضهما وصارا متمايزين.
سألتها ما الذي حدث لي، رفعتْ كتفيها غير عارفة بشيء واختفت.
كنت أرتدي رداءً قبيحاً بكُمّين قصيرين، ويصل إلى ركبتيّ كفستانٍ نسائي. بحثتُ عن ثيابي فلم أعثر عليها. كان يُفترض بهم عندما نَضَوا عني ملابسي أنْ يضعوها تحت سريري في كرتون أو كيس، أو حتى مكومة على البلاط.
نهضتُ بحذر؛ مثانتي تكاد تنفجر من البول، وقفتُ وجرَّبتُ الارتكاز على قدميّ بالتناوب، أحسستُ بألم محدود فيهما، كان يتلاشى إذا كففتُ عن الضغط، ومشيتُ باتجاه دورة المياه وقضيتُ حاجتي.
هل انتقم مني ذلك الهُولَةُ الذي له رأس ابن آوى؟ يحق له أن يغضب، لأنني ضربتُ له موعداً وأخلفته.
رجعتُ إلى سريري وفتشتُ عن ملابسي مرة أخرى. كنت محرجاً من القميص الغبي الذي يُعطيني مظهراً نسائياً. سألتُ زملائي المرضى في الحجرة، وعددهم ثلاثة، عن قسم الأمانات الذي يودعون فيه متعلقاتنا فلم يعرفوا. استغربتُ أني الوحيد من بينهم الذي يرتدي القميص الطبي المضحك. نصحني أحدهم بالذهاب إلى إدارة المستشفى، لم أُضيع وقتاً وقصدتُ الإدارة.
طالبتهم بملابسي وساعتي الثمينة وخاتمي الفضي المرصع بالزمرد، فردّ عليّ موظف مستهتر بأنهم استلموني عارياً كما ولدتني أمي!، شعرتُ بأنّ كرامتي الشخصية قد انتُهكتْ فكذبته ونعتّه بالمخنّث، هجم عليّ وضربني بركبته في معدتي، وتدخل آخرون لإبعاده عني. قال واحد مُطيِّباً خاطري: “اطلب العوض من الله فيها، ضعاف النفوس يستغلون الحوادث المرورية للسلب والنهب بدلاً من إنقاذ المصابين”. ردّ عليه الموظف المستهتر: “لم يكن حادثاً مرورياً، بل غَرِقَ في البحر، والتي أنقذته وأسعفته بسيارتها إلى قسم الطوارئ بنت.. إح..إح..إح”. كانت تلك أخبث ضحكة مصطنعة سمعتها في حياتي!
احمرّ وجهي من النبأ المخجل، وسعلتُ سعلة مصطنعة ووليت مدبراً وقد عقدتُ العزم على الانسلال من المستشفى في أسرع وقت.
عرَّجتُ على قسم الحسابات وطلبتُ إجمال حسابي، فقالوا إن فواتيري مدفوعة، تعجبتُ وسألتهم عمّن يكون، فذكروا إنها شابة طويلة القامة، لا يعرفون اسمها، ولكنها تركتْ رقم هاتفها للاتصال بها عند الطوارئ. ناولوني رقم هاتفها متوقعين مني الاتصال بها لأشكرها، ولكنهم لا يعلمون أنه ليس من شيمي مع الأسف أن أشكر من أحسن إليّ، وهذا لأن الحياء من مخاطبته يكاد يُقطّعني.
عدتُ إلى فندقي محتاراً ماذا أفعل بالوقت الإضافي الذي مُنحته في هذه الحياة. هناك أخبرني موظف الاستقبال أنني تغيبتُ خمسة أيام فاضطروا إلى إخراج أمتعتي من الغرفة. سوّيتُ المسألة وصعدتُ إلى غرفة شاغرة رديئة تطل على الصحراء.
فتحتُ هاتفي المحمول المُغلق، فوجدتُ قرابة مئة مكالمة فائتة من رحمة رئيسة العاملات، أخذ قلبي يثب وتعلق بأمل أن تكون أشجان قد نجت من الموت.. اتصلتُ فردتْ عليّ وأخبرتني بالتطورات:
أم أشجان قدمتْ بلاغاً للبحث الجنائي، وطلبت لجنة طبية لفحص عذرية ابنتها قبل دفنها وهو ما تم، وأثبت التقرير الطبي براءتها من تهمة الزنا.. وبعد التحقيق مع ابن عمها اعترف بأن رجولته قد خانته في ليلة الدخلة، وخشية الفضيحة، لم يجد حلاً لإنقاذ سمعته سوى قتلها ليُقبرَ سره معها إلى الأبد.
اعتذرتُ منها وأنهيتُ المكالمة. لم أكن أريدها أن تسمعني أنهنه وأشهق بالبكاء.
ارتميتُ على السرير مستلقياً على ظهري، وتذكرتً يوم تمشينا في شارع الجزائر ورأتْ مجنوناً يبول واقفاً وخرطومه يتلوى فصرخت مرعوبة وولت هاربة منه! عرفتُ حينها أنها ساذجة، بريئة، طاهرة، لا تعرف سوى أشياء سطحية عن الرجل.
صارحتني أنها كانت في طفولتها كثيرة الضحك والهزل، مشاغبة ومولعة بمخالطة الأولاد ولعب كرة القدم معهم، ولكن لما بلغتْ سيطرت عليها شخصية أخرى، وغدتْ جامدة باردة، ربما بسبب خوفها من ألسنة المجتمع.. ومن حينها تعلمتْ أن تتصرف عكس رغبتها، أن تتظاهر بعدم الاهتمام بالذكور وهي منجذبة إليهم بكل حواسها، أن تبتعد عنهم وهي تود البقاء بصحبتهم.. أجبرتْ نفسها على قمع ميولها الطبيعية، والتصرف بأسلوب “يتمنعن وهُنّ راغبات”، فصارت تُجيد التعبير عن مشاعرها الأنثوية الخاصة بطريقة معكوسة!
جسمها ريان مكتنز، شعرها أسود جميل، عيناها حلوتان، شفتاها ممتلئتان، فمها صغير يغري بالملذات، صوتها رخيم، فاتنة، حسناء بزيادة، مدللة، حساسة جداً لأي تلميح سيئ، قد تنفجر بالبكاء إذا جُرحتْ بكلمة، معتزة بنفسها، محتشمة، متحفظة.
قبل التحاقها بالعمل في المصنع كانت تُدمن السهر، وتستيقظُ آخر واحدة في البيت، لا تُفطر وتنتظر وجبة الغداء، وغالباً لا تتعشى توقياً من زيادة وزنها، ولكنها تتناول مأكولات غير صحية كالحلويات والشيكولاتة والمشروبات الغازية، وتلتهم كميات كبيرة من الشبس الذي تحصل عليه مجاناً من المصنع.
كسولة نوعاً ما، تتهربُ من الأعمال البيتية وتنفر منها، تحتاج ساعة أو ساعتين في اليوم تنعزل عن الآخرين وتبقى لوحدها لتستجمع شتات روحها.
تعيشُ في عالم آخر – افتراضي- ولا يثير اهتمامها الواقع الذي تعيش فيه. طموحة وسقف توقعاتها عالٍ، بطيئة والزمن ليس مهماً عندها. تفتقر إلى الخفة والسرعة في الإنجاز.
بسبب حادث في طفولتها – ذبحوا أمامها خروف العيد الذي صادقته- امتنعتْ عن أكل اللحوم الحمراء، وحتى الرز والخضار إذا طُبخ بلحم أحمر تتقيأه.
تتطلبُ من الآخرين أن يعاملوها معاملة خاصة، وهذا لأنها عُوملتْ هكذا في طفولتها فهي آخر العنقود.
عنيدة، شخصيتها مغلقة، تُقيم أسواراً منيعة حول ذاتها لكيلا يقتحم فضولي خصوصيتها. لا تأخذ حياتها بجدية وصرامة، مهملة، غير منظمة، وكل شيء بما في ذلك تفكيرها يخلو من الترتيب. تميل إلى التمدد أكثر من الجلوس، ولا يمكن أن تقعد على كرسي إلا وتضع رجلاً على رجل.
تقدَّم لها خُطَّابٌ متنوعون، لم ترفضهم، ولكن أسرتها هي التي كانت ترفضهم.
أسرَّتْ لي مرة في لحظة صفاء نادرة بأنها ترى نفسها مركز الكون، فقلتُ لها بجدية “ولكن هذه هي الحقيقة!”. فتضرجتْ وجنتاها بحمرة شديدة، وقالت إنني مُغازل أشد خطورة من إبليس.
*جزء من نص سردي قيد الإنشاء!
**روائي يمني.
تعليقات