أ.د. محمد عبدالكريم المنصوب
كيف يُمكن للعالم الإنساني كله، أنْ يكون بلا صداقات، وكيف سيكون شكله ولونه؟!. ربما لم يخطر ببال الكثيرين طرْح مثل هذا السؤال أو مناقشته، لبداهة عدم إمكانية حدوثه، ولِأنّ الصداقة أمر بالغ الأهمية والإنسانية، لا غِنى عنها في كلّ ظرف وفي كلّ زمان ومكان، وأتفهّم تمامًا تلك المشاعر وأُقدّرها. لكن ما دفعني لمناقشة هذا الموضوع أو طرحه، هو ما أصبح جليًّا يومًا وراء يوم، أنّ الصداقات العميقة التي عشناها لسنوات طويلة، قد بدأت بالاضمحلال التدريجي الناتج عن عوامل عديدة، والتي منها بالطبع الانشغال بأحوال الحياة المعقدة، والتي لم تعد تجري في أُطر منطقية يسهل التعامل معها، أو الخروج من دائرة التفكير بها وبآثارها. كما أنّ السّن لا شك أنه يلعب دورًا مهمًّا وراء ذلك الاضمحلال، فكلما كبر الشخص كلما استطاع بطريقة ما الاقتناع بتقليل علاقاته وتجاوزها بسهولة ويُسر مهما كانت عميقة. إلا أنّ العامل الحاسم في ذلك الاضمحلال، والذي غزا حياتنا بكل قوة وعنفوان، هو عامل التكنولوجيا، الذي اختصر المسافات والأزمنة، ودمر حواجز اللقاءات البشرية المفعمة بالأحاسيس والمشاعر، وحلّ محلها، بكل ثبات وجسارة. وفي هذا الإطار قد يقول قائل، إن التكنولوجيا – وعلى عكس ما أقول – قد فتحت آفاقًا لصداقات لا نهاية لها تتعدى المكان والزمان، وجعلت الصداقات أكثر غنىً واتساعًا لا حدود لها ولا حواجز، ولا يمكنني إنكار مثل هذا الطرح بصورة ما. لكن ما أعنيه بالصداقة، هو ذلك الشعور الجميل الذي يغزو القلوب والوجدان، ويقفز بالإنسان إلى مستويات راقية من الأحاسيس والمشاعر، ويُدخِل من يعيشونها في قالب إنساني واحد وعظيم. فهل تسعفنا التكنولوجيا بالوصول بصداقاتنا الكثيرة الافتراضية إلى مثل تلك الحالة الإنسانية الفريدة والرائعة؟!. أظن أنّ الإجابة واضحة في هذا السياق، وهي أنّ التكنولوجيا لا يمكن لها أنْ تُقدّم لنا مشاعر صداقات حقيقية، بل إنها تجعل من السهل جدًّا استبدال الصداقات بأخرى طالما كان المجال مفتوحًا، وبضغطة زر تقريبًا، فمن هو ذلك الشخص الذي سيحرص على بناء صداقات حقيقية ودائمة في هذا الجو العاصف من الصداقات.
تجمعني أحيانًا لقاءات مع عدد كبير من الأشخاص، وما أن يمر الوقت وتنتهي فورة النقاشات والآراء، إلا وتجد الكل، دون استثناء، قد ذهبوا في عوالمهم الأخرى والخاصة مع تلفوناتهم، ونسوا أو تناسوا من حولهم لأوقات طويلة أحيانًا. هذا النمط من العلاقات الاجتماعية، قد بدأ يسود بشكل ملحوظ جدًّا، وهو ما سيقود تدريجيًّا إلى أنْ يجد الكثيرون أنفسهم، راغبون في الاختلاء طالما توفر لهم التكنولوجيا وسائل الاتصال لمن يريدون بسهولة ويُسر. بالإضافة إلى ذلك، وكما نعلم، فإن الصداقات الحقيقية والجميلة لا تُبنى إلا من خلال سلسلة طويلة من التجارب والمواقف الإنسانية، والتي تعزز جوانب الثقة والاطمئنان، والتي بدونها يكون من المحال بناء أيّة علاقة صداقة موفقة ودائمة. وهذا لا يمكن لأيّ تكنولوجيا أن تجلبه وتقنع به أيًّا كان. وعلى سبيل المثال، هل ستكون واثقًا ومطمئنًّا تمامًا وأنت ترسل مالاً طلبه صديق لا تعرفة إلا من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؟!. وعلى هذا فإن الصداقات القائمة على مثل هذه الأسس هي صداقات هشة قابلة للتصدع في أيّة لحظة وأيّ ظرف مهما كان بسيطًا.
ولا ننسى عند تعرضنا هنا لموضوع الصداقة، أن نغفل الحديث عن وجود صداقات تحملُ طبائع مختلفة، فصداقة الإنسان بالحيوان وصداقة الإنسان بالبيئة التي حوله، وصداقات الحيوانات ببعضها وكذلك صداقات الدول والمؤسسات ببعضها، وهلُمّ جرًّا، فكلها صداقات. لكن فقط صداقات الدول والمؤسسات والشركات، أصبحت قائمة على مبادئ غاية في الأنانية أساسها المصلحة والمصلحة والمصلحة، لا مجال فيها لإنسانية أو أخلاق أو قيم، وما تفعله دول التحالف – على سبيل المثال – في حربها ضد اليمن لهو أكبر دليل وأنصع برهان على المستوى المتدني الذي وصلت إليه سياسات تلك الدول، وتحت مُسمى الصداقة والأخوة، ومصلحة اليمن واليمنيين.
العالم من غير صداقات بريئة وشريفة، هو عالم متوحش لا ينتمي للسلالة البشرية والإنسانية بشيء، وهو عالم يفتقد إلى أهمية بقاءه واستمراره كونه يفتقد إلى أهم عناصر البقاء والنمو المتمثل بصدق وحميمية الأخوة والمشاعر.
تعليقات