Accessibility links

الشعر الشعيبي التهامي اليمني.. رومانسية ومشهدية وتدفقات جمالية 


إعلان
إعلان

حميد عقبي*

في البداية أود التنويه أن ما أكتبه ونشرته عن الشعر الشعبي التهامي عبارة عن تأملات وتذوق جمالي، وليس شرحًا للنظريات والأوزان، ولا متابعة تاريخية، وقد اعتمدت على نماذج منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضها من حفاظ ورواة أو محبين، وربما هذه النماذج قد تختفي باختفاء الصفحات أو القنوات النشطة حاليًّا، وأحيانًا أجد نموذجًا بأكثر من مكان، وأحاول اختيار، واجتهد دون أي تعديلات، ربما يكون ما أنشره مفيدًا لغيري أو دافعًا ومشجعًا لدراسات نقدية رصينة ومعمقة، كما تلهمني هذه النصوص ككاتب ومخرج سينمائي ومسرحي وربما ينتج منها أو تلهمني عملاً مسرحيًّا أو سينمائيًّا، حيث أجد بعض النماذج مفعمة بالخيال ومكثفة ودرامية، وكذلك فيها من الفن والتجريب والحداثة.

 الشعر الشعيبي

من أورع وأجمل الشعر التهامي اليمني ما يسمى الشعر الشعيبي، وهو (شعر سي شعيب الأهدل)، والذي يمثل بحد ذاته مدرسة شعرية مستقلة بحد ذاتها ولونًا غنائيًّا وشعريًّا مهمًّا ونادرًا، وكذلك صعبًا، والقليل جدًّا من الشعراء السابقين والحاليين يجيدونه، ومع ذلك يظل مثيرًا ومدهشًا ونموذجًا مهمًّا في أي دراسة في مجال المغنى التهامي اليمني، وهو أيضًا يتعرض للاندثار بسبب موت حفظة الشعر الشعبي ومتغيرات اجتماعية عديدة، فقد كانت مواسم زيارات الأضرحة والأولياء وحفلات موسم الحصاد والأعراس تمثل متنفسًا لكل الفنون الشعبية، وأغلب الزيارات وحفلات المواسم الزراعية توقفت، وبعضها تم منعها وتحريمها بسبب تنامي المد الوهابي والحركات السلفية في منتصف الثمانينيات والتسعينيات، حيث تسببت بهدم أضرحة وتعطيل مواسم شعبية… بينما يظهر الآن شبه صحوة بالاهتمام بالموروث، ومحاولة جمعه ودراسته ونشره، ونتمنى أن تنمو هذه الصحوة، وتتضافر الجهود لإنقاذ ما يمكن انقاذه ودراسة هذا التراث وفق مناهج بحثية أكاديمية.

 

سي شعيب باري الأهدل

أضع بين يديكم هذا النموذج، وهناك نماذج قليلة جدًّا تنتشر على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن هذه الصفحات قد تختفي في أي وقت، كما توجد عدة كتب وأبحاث للباحث والفنان اليمني د. فهد الشعيبي، وقد نشر عدة كتب، لكنها للأسف نُشرت يمنيًّا فقط، وكنت تحدثت مع د. فهد الشعيبي حول إعادة نشر أبحاثه، وأنتظر تفرغه وتواصله، كما لا يمكن أن نغفل بعض أبحاث الأستاذ الراحل عبدالله خادم العمري… وقد امتلك العمري ثروة كبيرة وثق وجمع مئات النماذج مع تسجيلات صوتية وفيديوهات، ولا ندري ما مصير هذا الأرشيف المهم جدًّا بعد رحيله، وهذا الأرشيف كان نتاج رحلة نصف قرن من التوثيق.

ينتسب سي شعيب باري الأهدل إلى مدينة المروعة ـ محافظة الحديدة، وهي مدينة ريفية وزراعية، وتشتهر بسوقها الشعبية يوم الاثنين، وهي من الأسواق الشعبية التهامية المهمة، كما تشتهر المدينة بمطاعمها الشعبية، التي تقدم اللحم المحنود أو المدفون وعسل المراعي… ولا تزال تحتفظ بطابعها الريفي، وتحيط بها الحقول الزراعية والمراعي الطبيعية من كل الجهات، وتمتاز قراها بطابع ريفي بديع، حيث الزحف المدني والأسمنتي يتمدد ببطء.

القصيدة الشعيبية.. لحظية ومن الواقع

استمعت وشاهدت مقابلة لشاب تهامي عبدالله البرديني الزرنوقي على مدونة سعودية لشاب يجمع فيديوهات تراثية يتحدث عن الشعر الشعبي التهامي، وأقتبس بعض ما سرده عن مدرسة سي شعيب وأدون منه قصيدة… يقول سي شعيب:

نموذج 1

لا انسو ولا جنو مثلي ودف

قد عاهدونا على أمكتاب وأمصحف

ومن خان أمعهود في ته أمليله عليه أمبنى تشجدف

لا انسو ولا جنو مثلي ودف

يا داخل على شعيب يسمع دمادم أمدف

لكن يبدو أنه ارتبك في الالقاء، ولم يحفظ القصيدة كاملة بسلامتها، لذا أكتفي بهذا المقطع. ويمكن تلخيص القصة بشكل مختصر، حيث  كان سي شعيب يعالج ويرقي بنت جميلة من إحدى القرى، ويبدو أنه أغرم بها، وقد تماثلت للشفاء، فطلب من أهلها أن يتزوجها، فرحبوا به، وطلب منهم مهلة سنة ليحضر مهرها، وغاب ثم عاد وفق العهد، فسمع صوت الدفوف، وعندما سأل عرف أنه عرس البنت التي أحبها، فأنشد قصيدته (قد عاهدونا على أمكتاب وأمصحف)، ونهاية القصيدة يبدو فيها الكثير من الغضب والتقطت صورة:

الأرض أهتزن وأمسماء تتشاجف

أي السماء تتساقط وكأنها دعوة غاضبة، وتمثل الغضب الداخلي العاصف وسي شعيب كان يعالج الناس بالرقية كما سبقت الاشارة، وكان في تهامة الكثير من بيوت الهاشميين تعالج بالرقية من العين والمس الشيطاني، وبشكل مجاني.

نموذج 2 من الشعيبي

أهلا وسهلاً ومرحبًا حيا بك

كم لك غايبو أمسنين واليوم ربنا أتى بك

لو تجلس عندي مئة ألف عام

ما كليت ولا قلت لك حسابك

يا ليت بابنا مقابل بابك

لأجل الخير وأمسلام وتكون أمعين قاره بك. 

سي شعيب الأهدل نموذج 3

نظره من امزخم تكفي لمسنه مصروفو

تملك بها تهايم وجبالْ

وتبني في امسما سقوفو

جِه وا سيد امطيور لمحك روفو

ما شارك وما احتمكْ

تبدي في ذا اليوم حمى وخوفو

بحق مّاكنت في الهوى لي كيفو 

وكنت اجني من زهورك ما طابْ

وكنت بي لطيفو

يامن له امجعد كامخنان مردوفو 

مثل اماطر امقوي 

لارجّحْ شبه امجود في خريفو

واعيانه الدعج لفاتتها تجزيفو

جوهرتين في بنا متحوفو 

تضوي فوق على رفوفو

وامصدر بستان وجانيه ملهوفو

فيه امسفرجل وامتينْ 

وامعنب يجنُنٙه شتا وصيفو

وأسنانه اللول نغمها تشريفو

وريقه مثل امسلامي دله 

ينفع الذي نحيفو.

حسنا يمكننا وضع بعض التأملات للنموذج الثالث

نظره من امزخم تكفي لمسنه مصروفو

تملك بها تهايم وجبالْ

نظرة من (امزخم) أي الجميل، وكررت بعدة مناسبات أن الحبيبة توصف وتخاطب بالمذكر في كل الألوان الشعبية التهامية… تكفي للسنة مصروف، بهذه النظرة أيضًا تملك التهايم أي السهول والجبال.

وتبني في امسما سقوفو

جِه وا سيد امطيور لمحك روفو

كذلك تلك النظرة من الحبيبة تبني السقوف في السماء، (جه) كأنه يستحلفه ويلفت انتباه المخاطب. (وا) أداة منادى أي يا سيد الطيور فإن نظرتك حادة، نقول كالسكين أو الخنجر (روفو) أي حاد جدًّا سريع القطع، هنا كأنه يقر بما أصابه، فنظرة بنت أحلاما، وقد أصابت النظرة قلبه وعقله.

ما شارك وما احتمكْ

تبدي في ذا اليوم حمى وخوفو

يخاطب محبوبته: من الذي أشار إليك الخروج في هذا اليوم (حمى وخوفو) أي حر قائض وخوف شديد.

بحق مّاكنت في الهوى لي كيفو 

وكنت اجني من زهورك ماطابْ

 وكنت بي لطيفو

يعترف الشاعر قبل هذه النظرة لم يكن له رغبة في الهوى، ويعود ليقول إنه كان يجني من زهورها ما طاب، وكانت معه لطيفة، وربما نفهم أنه كان يرى محاسنها الجسدية عندما تمر لكنه لم يكن نال منها نظرة.

يامن له امجعد كامخنان مردوفو 

لها من الشعر الأسود والخنن أي الوشاح، الذي يغطي الشعر والوجه، وكأن هذه (أمخنان ردوف) أي أبواب حاجبة.

مثل اماطر امقوي 

لارجّحْ شبه امجود في خريفو

كالمطر القوي، كأني أفهم نوعًا من الاستغراب من هطول المطر في الخريف، بينما مطر تهامة صيفي.

واعيانه الدعج لفاتتها تجزيفو

هذه عينيه شديدة السواد والدعج وهي كلمة فصحى بحته، (لفتاتها) تجزيف ربما يقصد تصيب بالخطر ويستمر بوصف العيون:

جوهرتين في بنا متحوفو 

والمعنى هنا واضح والصورة بديعة جدًّا.

تضوي فوق على رفوفو

أي مضيئة كأنها على رفوف وكلمة (رفوف) كأنه يشير للعلو.

وامصدر بستان وجانيه ملهوفو

فيه امسفرجل وامتينْ 

وامعنب يجنُنٙه شتا وصيفو

يمدح ويصور الصدر كأنه بستان يأوي السفرجل والتين والعنب بالصيف والشتاء.

وأسنانه اللول نغمها تشريفو

وريقه مثل امسلامي دله

  ينفع الذي نحيفو.

(أسنانه اللولو) ذات صوت ونغم جميل، وريقه أي لعابه كعسل السلام اليمني البلدي الأصيل، وهو شفاء للضيف والنحيف.

مشهدية بديعة ودراما متدفقة

لعل من الجيد هنا ذكر بعض النماذج التي ذكرها الباحث التهامي علوان الجيلاني، وهو ينشط حول تراث وفنون تهامة، وربما لي ملاحظة مهمة أتمنى من صديقي علوان الجيلاني أخذها بعين الاعتبار، وهي توضح المصادر، لنفهم ما هو المنقول ومن أين مصدره وما هي اضافة الباحث أو تحليله.

جميل أن يواصل الجيلاني مسيرة من سبقه وينشر كتاباته في التراث التهامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

منذ فترة طويلة لم نتواصل ومع ذلك يجب أن نشيد بجهده فقد وجدت قراءته للنماذج واضحة، بينما توجد نماذج وتسجيلات مبعثرة على وسائل التواصل الاجتماعي يكون فيها الصوت غير جيد أو سريع، وخاصة التسجيلات القديمة بأصوات الشعراء والمغنين أصحاب المادة، كما نلاحظ البعض يعرضون نماذج مع صورة، وهناك نماذج مع نصوص القصائد، لكن فيها أخطاء، وهناك قصائد غير مرتبة يتم عرضها كنص مع موسيقى غير منسجمة مع اللون الشعري. 

نموذج مصدره الجيلاني

شاوصي معك ونسيم حسك تنسى

بالله لو زيد عليك

سلم لي على ساجى أمنعاسه

وهو يوضح، وهذا التوضيح أعجبني، أن شعر الشعيبي هو ثلاثة مقاطع: مِشكلين ومشكل، والمِشكل هو الحمولة على الجمل أو الدابة، ويوجد مِشكل يمين ومِشكل يسار، ولراحة الدابة وتوازنها أكثر يكون هناك حمولة توضع بالوسط بحيث يحدث التوازن، والمسألة أشبه بنظرية فيزيائية يتم تطبيقها في كافة وسائل النقل.

نموذج 2 يذكره الجيلاني

وما له على أماي يبرحه ويكافيه

وابي ما يعمني عسى الله ما فيه

وجورو للذي مريضو يشفيه

والي غابو سنين جرعة وأحد تكفيه

وما فيش كاملحاف جسمك يدفيه

يلمه ويكتمه

وصبرك بالذي ناقصوا توفيه

وقلبي لو هو حر

ماطريبه يكفيه

لكن أمبخت وأمنصيب 

وصاحب أمباطن ولا تماشيه

وخِلي مريضوا الله يشفيه

ولما صح وابترأ

 رماني بين أمشوك وأمحنش فيه

وأمعترض بيننا سفيه بن سفيه

ذاك كأسي 

وذاك كأس خلي مطروحو

والي شاجعو يكافيه.

أتمنى أني نقلت النموذج بشكل جيد، وليت الجيلاني يضع النص مع التشكيل، فهو أحيانًا يكون واضحًا جدًّا، وأحيانًا يسرع في الإلقاء، وقد اتبعت تذوقي عسى ألا يكون هناك خطأ، وفي حال وجود أي خطأ بأي نموذج سأكون شاكرًا بتنبيهي وتصحيح أي خطأ، وسوف أتقبل أي ملاحظة بصدر رحب.

لو تأملنا النموذج السابق فنحن مع مشهدية بديعة يتوفر فيها دراما متدفقة، وهذا الآن تحليلي كمتذوق ومتأمل: إننا فعلاً مع رومانسية مفرطة، وأضيف أننا مع مساحات تخيلية أنيقة ولطيفة، كما تتسم نصوص سي شعيب بما يشبه الاستنتاجات بكل قصيدة، وأظن أن أغلب عباراته صارت مثلا للبلاغة والبساطة. 

هناك مشهدية ديناميكية وتشكيلاً فنيًّا بديعًا، تتقافز الصور لتستقر وتنشط وتقذف بنا بمحيط التخيل، ولا تقدم صورة متجمدة وباهتة، بل نحن مع خلق فني إبداعي حر، فيه الكثير من الأصالة بأساليب حداثية بديعة، ووفق نظريات الخطاب الدلالي والسيميائي وخطاب الصورة و..و.. ندخل في معترك صعب، وربما على نقاد الشعر الفصيح والموزون وقصيدة النثر العودة إلى التراث الشعبي، وخاصة التراث الشعبي العربي، وأن يطلعوا على الشعر الشعبي اليمني بالذات، كون هناك خصوصية مهمة لليمن، حيث ظلت بمعزل عن التأثيرات الأعجمية، وتمتلك الأصالة المتوارثة عبر العصور.

ظل اليمن ينتج ويطور ثقافته وفنونه، بل ويصدرها إلى العالم عبر الهجرات المتتالية وعبر رحلات التجارة، ولم يكن اليمن مستقطبًا لهجرات قوية مؤثرة وفاعلة من الخارج، وكان الذين يصلون إلى اليمن من الهند أو أفريقيا يسارعون بالانصهار السريع في ثقافة وفنون اليمن.

عودة لتأملي بصفتي كاتبًا ومخرجًا سينمائيًّا ومسرحيًّا، حيث تشدني الصورة والمشهد وليس القواعد والنظريات.

أشعر أن سي شعيب كان ينظم شعره من وقائع وأحداث حياتية يعايشها، وتكون قصيدته وليدة لحظة معايشة الحدث، فيصوره ببلاغة وعبقرية جمالية بعيدًا عن الصناعة والزخرفة المصطنعة، وهو شاعر رومانسي تتدفق قصائده بحسّ مرهف وتلقائي، ولا يعني ذلك جهله بالمدارس الشعرية الأخرى السائدة في عصره، لكنه شق لنفسه مسارًا تجديديًّا رومانسيًّا وعاطفيًّا، وابتعد ربما عن تقليد غيره، ويبدو لم يرث موهبته أحد من ذريته.

السؤال: لماذا ظل الشعر الشعيبي نادرًا ولم يتواصل تطور هذه المدرسة؟

سأجتهد وأحاول البحث عن الرد، وربما الانطباع الأول أننا مع أسلوبية بديعة فيها الإبداع وبصياغات السهل الممتنع، وهو أصعب تفكيكًا، وربما أن أحداث سياسية جسيمة عصفت بأقليم تهامة، ما جعلت الشعراء ينخرطون في مسار حركات وطنية، ورغم عدم خلو أي لون من العاطفي ووصف الحبيب إلا أن الشاعر كان صوت أمته ومصدر وعيها والمعبر عن همومها.

سي شعيب كان عاطفيًّا ورومانسيًّا وصاحب تجارب عاطفية متعددة، ولم يمارس الشعوذة والتنبؤ بالمستقبل والعرافة، ولم يتخصص بالوصف والمدح والهجاء للتكسب، ويبدو أن مهنته كمعالج نفسي وروحي أغنته مد يده للمشايخ وأصحاب المال لكسب قوت عيشه، وهذه الاستقلالية كما أفهمها جعلته يتفرغ لذاته، وجعلته حرًّا طليقًا يهيم في بحور الإبداع دون رقابة ولا ضغوط.

عودة للنموذج الأخير

وما له على أماي يبرحه ويكافيه

وابي ما يعمنى عسى الله ما فيه

وجورو للذي مريضو يشفيه

وكأنه يقول ما لهذا على (اماي) أي الماء ويقصد البئر، يبرحه ويكافيه، يبرح أي يستخرج الماء ويكافيه أي يجعله يسيل أو يبعثره.

وابي ما يعمنى عسى الله ما فيه

رفض أن يسقيني عسى ماذا يوجد بهذا الماء؟

وجورو للذي مريضو يشفيه

كأني فهمت وهل هو علاج للمرضى ويشفيهم.

يتحدث عن فتاة تستخرج الماء من بئر وتعبث به، استسقاها فرفضت، وتسأل الشاعر إن كان هذا الماء مختلفًا يشفي المرضى، وكأن هذه الجميلة فعلت هذا الفعل عنادًا، وربما لأن نظراته كانت نظرات تحرش، لذلك مانعت أن تسقيه… فالمشهد يوحي بأكثر من قصة عادية.

والي غابو سنين جرعة واحد تكفيه

وما فيش كاملحاف جسمك يدفيه

يلمه ويكتمه

هنا تتضح مقاصد الشاعر ودلالات المقطع الأول، بالمشهد الثاني يعترف بأنه كان غائبًا عن هذا المكان عدة سنين لذا شربة واحدة من الماء تعيده وتكفيه لينسى تلك الغربة..

لا يوجد أفضل من لحاف ودفء اللحاف، وهنا استخدامات دلالية، ولا نظنه يقصد اللحاف بمفهومه المادي بل يذهب بعيدًا… فالمشهد يوحي ويتدفق بالكثير من الاشارات.

وصبرك بالذي ناقصوا توفيه

وقلبي لو هو حر

ماطريبه يكفيه

أكثر ما يضرب كأنه يحض نفسه على الصبر ثم يلوم نفسه، وقلبي لو هو حر تكفيه الدروس والعبر والمغامرات.

لكن أمبخت وأمنصيب 

وصاحب أمباطن ولا تماشيه

وخِلي مريضوا الله يشفيه

هو البخت والنصيب والقدر وصاحب الباطن، أو ربما تكون صاحب الباطل لا تماشيه، لكن حبيبي أو رفيقي  بهذا المشهد الله يشفيه أي يشفيه من غروره، وربما من قسوته أو هو فعلاً به مرض وقام سي شعيب برقيه، ولعل هذا الفهم يصلنا من المشهد التالي ثم المشهد الأخير الخلاصة والعبرة والاستنتاج .

ولما صح وابترأ

 رماني بين أمشوك وأمحنش فيه

وأمعترض بيننا سفيه بن سفيه

عندما شفي أو شفيت هذه الفتاة وتعافت بفضل سي شعيب فكان حينها جزاء سنمار، وهو تنكر وعدم عرفان، (رماني بين أمشوك وأمحنش فيه) أي قذف بي في الشوك حيث (أمحنش) أي الثعبان أو الثعابين المفترسة داخل هذا الشوك، ومع كل هذا الجفاء، وما فعلته هذه الحبيبة فهو لا يريد أحدًا أن يتدخل، ويعتبر أي تدخل في القضية سفاهة وفضول.

مشهد النهاية

ذاك كأسي 

وذاك كأس خلي مطروحو

والي شاجعو يكافيه.

ذلك كأسي وذلك كأسها موضوع يقصد هذه قضيتنا كأسي وكأسها، والذي شجاع ليأتي ويسكب، وبالتأكيد لا يقصد كأسه أو كأسها بالمعنى المادي، فنحن مع شعرية ذكية وقوية تعتمد على الإيجاز البليغ، لا ثرثرة زائدة. كل ما يصلنا صورة تلو صورة وتكوينات مشهدية وفسحة متخيلة لنتخيل المحذوف وتسارعات زمنية ومكانية تشكلُ درامية بديعة تتيح لنا أن نتخيل حوارات وأحداث وعبرات وليس مواعظ.  

جهود ومراجع 

الكثير من الأكاديميين والنقاد العرب يتجهون إلى كتاب (فنون الأدب الشعبي في اليمن) للشاعر الراحل عبدالله البردوني معتقدين أنه يشمل كل فنون اليمن الشعرية، وهذا طبعًا اعتقاد خاطئ، وخاصة فيما يخص الفنون الشعرية والغنائية في تهامة اليمن، فقد أفرد لها جميعًا فصلاً واحدًا صغيرًا يبدأ من ص 340 وينتهي 361، وكأنه لم يصله أي شيء عن الشعر الشعبي التهامي وتفصيلاته، ونفهم أنه يعتبر فنون تهامة هي الموال البحري والزراعي والرعوي، ويتحدث قليلاً عن الشعر التهامي والطارق، ويورد القليل جدًّا من النماذج… وفي نهاية الفصل أشار بعبارة تخرجه من الحرج فكتب في نهاية صـ 361: “فليست هذه الجولة في الفنون التهامية إلا كالشاطئ من البحر أو كعناوين فصول الكتاب، كلها مجرد دلالة قد تحمل على التقصي، وقد تكفي كإثارة البرق التي تختصر النجوم”.

هنا ينهي البردوني فصلاً بسيطًا جدًا عن فنون تهامة، معتبرًا هذا الفصل الصغير جولة سريعة وومضات خاطفة غير مرتبة ولا مكتملة، مجرد شذرات.

ويوجد كتاب (من فنون الشعر الشعبي في تهامة) للباحث هشام عبدالله ورُّو، الذي تتبع من خلاله جميع الأنواع الرئيسية للشعر الشعبي التهامي، وأنماطه، مقسِّمًا فنون الشعر الشعبي في تهامة إلى ستة أقسام رئيسية هي: الشعر اليماني، والذي أدخل تحته ما سماه بـ”شعر المغنى”، وشعر المزيب والمعنوي، أما النمط الثاني فهو الشعر الشامي، ومنه الطارق المسمى بـ”الشامي”، ثم الشعر الشعبي، يليه الشعر الفرساني، وشعر الوزبة، وأخيرًا شعر الموّال.

يبدو أن هذا الكتاب الذي صدر عام 2004 عن وزارة الثقافة ظل محدود الانتشار، وربما نستطيع الحصول على نسخة منه لمناقشة ما فيه في مناسبة لاحقة، وربما مشاكل الكتب والأبحاث عن فنون الشعر الشعبي التهامي في أنها محدودة الانتشار وبعضها تم طباعته طباعة محدودة داخل اليمن، ولم تطبع طبعات أخرى للتوزيع على المستوى العربي.

ويوجد أيضًا كتاب (الشعر الشعبي المغنى في تهامة) للباحث عبدالله خادم العمري، وهذا الكتاب أيضًا يبدو أن توزيعه ظل محدودًا داخل اليمن، ورغم أنه صدر عن المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء عام 2006 وبتقدمه وإشراف من المستشرق الفرنسي د. جان لامبيرت، ولكن لا أظن بوجود نسخة إليكترونية، وربما يعاد طبعه على مستوى أكبر في حال عودة نشاط المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء، والذي توقفت نشاطاته منذ بداية الاضطرابات باليمن.

*مخرج سينمائي وكاتب.

   
 
إعلان

تعليقات