السماء تدخن السجائر
بقلم: وجدي الأهدل
في صباي سمعت أبي يتحدث عن سنة «عضو الحمار» التي تتكرر مرة كل 67 عاماً. هي سنة تشبه المذنبات التي تعبر مرة واحدة في حياة الإنسان. سُميت بهذا الاسم لأنها سنة الأهوال وتغيّر الأحوال وموت الرجال.
نصحني أبي إذا أدركتُ هذه السنة في المستقبل أن أُقلل من طعامي وكلامي، وأن أخرج مع امرأتي وعيالي إلى أرض أجدادي.
لقد جاءت السنة المشئومة في موعدها المحدد وصدقت حسابات والدي التنجيمية، ولكن ما لم يكن بحسبانه ولا أنا أيضاً، هو أنني سأعزف عن الزواج، ولن أُسرَّ بالذرية، وبالتالي ستصبح نصيحته عديمة الجدوى.
منذ أربعين يوماً وإله الحرب يتجول في كل شبر من بلادي، ويأكل بشراهة الأرواح التي يخطفها من أجساد أصحابها.
تم تعليق الدراسة في المدارس والجامعات إلى أجل غير مسمى، وأكثر من نصف المحلات التجارية أغلقت أبوابها. أزمة في الكهرباء وغلاء شديد في الماء، و90% من السيارات متوقفة بسبب نقص الوقود. النزوح اليومي إلى المناطق الآمنة مستمر دون توقف، والمدينة قد تفرغ من سكانها في وقت قصير.
أدرك أبي رحمه الله سنة «عضو الحمار» في عام 1948 عندما اقتحمت القبائل صنعاء وقتلوا جدي ونهبوا حانوته.
سنة «عضو الحمار» التالية سيحل موعدها في عام 2082، وحتماً أن كهلاً مثلي لن يدركها، والله يعين الأجيال القادمة على تحملها، لأنني متيقن بأن عضو الحمار يستفحل طوله من دورة لأخرى وتزداد وطأته!
في الشقة المقابلة لشقتي تعيش أسرة كبيرة العدد، أم وأب قد شاخا، وسبعة أولاد كبار، وبنت واحدة هي الصغرى في العائلة. كانت هذه الشقة مصدر ضوضاء رهيبة، الكثير من الصراخ والولولة، والصوت المكتوم الذي يثير القشعريرة لارتطام الأجساد بالجدران والأرض حين يتعاركون كالثيران، وأخيراً حين يخرج المغلوب حانقاً من الشقة صافقاً الباب الحديدي وراءه بكل قوته مخلخلاً كل حجر في البناية.
وفي مرات لا تحصى كانت الأم الغضبى تلحق بأولادها إلى خارج شقتها وتكيل لهم سباباً شنيعاً تعجز حتى البغال الصبورة عن تحمله، وتقذفهم بما تيسر في يدها: كأس زجاجي، مكنسة، سلة الزبالة، فردة حذاء، وفي إحدى مشاجراتها لم تجد سوى القط النائم بجوار بابهم فقبضت عليه، وقذفته على قفا ابنها الذي فجّر غضبها في ذلك اليوم. لا أعرف ماذا حدث لذلك الشاب، لأنني كنت أتلصص من العين السحرية، فهو لم يعد في مجال نظري، ولكنني سمعت صرخة فظيعة للقط الذي لم يضع قوائمه الأربع في عمارتنا بعد ذلك مطلقاً، وقد تأكد له أن سكانها من المجانين الخطرين الذين لا أمان لهم!
قررت هذه العائلة التي تشيع بين أفرادها العصبية الزائدة وسرعة الغضب الرحيل إلى الريف خوفاً من القصف الجوي، وخصوصاً بعد قنبلة «عطان» ذات القوة التدميرية الهائلة.
تابعتهم من العين السحرية وهم يخرجون حقائبهم إلى بسطة الدرج ببطء شديد. كل نصف ساعة تبزغ حقيبة منتفخة بالثياب، أو كرتون يعج بالأغراض والأواني ومشدود بالحبال. أخرجوا أسطوانة غاز وموقداً وعبوات صفراء فارغة سيستخدمونها لتخزين الماء. وأخيراً ظهرت كومة من الوسائد والبطانيات والفرش الاسفنجية الخفيفة.
طيلة النهار لم تغادر تلك الأغراض مكانها، وكأنما هناك شيء ما يؤخرهم. حل المغيب وأرسلت الشمس شعاعاً بلون رمال الصحراء، وخرج مجنون الحارة – الرسمي- وبيده ورقة وقلم وانشغل بالتحديق في السماء ثم تدوين حساباته الغامضة.
في الليل سمعت جيراني يتنازعون وتعلو أصواتهم، ثم فجأة راحوا يسحبون أمتعتهم إلى الداخل، وألغوا فكرة الرحيل.
قرب منتصف الليل بدأت الحفلة، واشتد الضرب أكثر من الليالي السابقة، فلم يغمض لي جفن. فتحت النافذة وتسليت بمشاهدة صليات المضادات الأرضية التي تأتي من جميع الجهات وتكتب في السماء بحروف من جمر قصة الحرب.
عندما أفاقت المساجد وبدأت بالتذكير، قررت أن أُجبر نفسي على النوم، وأن أتحاشى التفكير في الموت.
استيقظت حوالي الساعة العاشرة صباحاً وأنا محطم القوى. اتجهتُ إلى المطبخ وأعددت براداً من القهوة الثقيلة. قادتني قدماي إلى باب شقتي، ورحت أتطلع من العين السحرية. كان باب شقة جيراني مفتوحاً على مصراعه، ولا أحد بقربه، فخمنت أن ثمة شيئاً غير عادي يحدث. كنت أحتسي قهوتي المرة وحرارتها تشوي لساني، وأتابع المراقبة بفضول، ولكنني لم أر أحداً منهم ولم أسمع لهم صوتاً، ففكرت أنهم قد بكروا بالنزوح من المدينة.
اغتسلت بماء بارد وخرجت متعجلاً لأدرك صلاة الجمعة. لقيتُ رب العائلة (بدر) جالساً عند مدخل العمارة ويده على خده. مررت بقربه وسلمت عليه، فإذا به يجفل ويفيق من شروده ويرد عليّ التحية بلسان ثقيل متلعثم.
شعرت بالفضول يأكلني فسألته:
أين الأولاد؟
سافروا القرية.
الله يوصلهم بالسلامة.
آمين.
باب شقتكم.. نسيته مفتوحاً.
لا يهم.. ما عاد في البيت ما يستحق الإغلاق عليه.
وافقته بهزة من رأسي وتابعت طريقي. نبرة صوته حين نطق جملته الأخيرة لم تكن مواتية لأسترسل معه أكثر، أحسست أن أوتاره الصوتية تنشج.. عيناه ليست فيهما أيّة آثار للدموع، ولا يمكن أن يُلمح أيّ ضعف في ملامح وجهه القاسية، لكنني آثرت أن أتركه قبل أن يفقد تماسكه ويُلم به الخزي من ضعفه.
قضيت نهاري كله خارج البيت، وحين عدت في الليل كانت عمارتنا مظلمة موحشة. صعدت الدرج مستخدماً هاتفي المحمول للإضاءة، وعندما وصلت إلى الطابق الثاني التفت إلى شقة جيراني، فرأيت قفلاً على الباب. استغربت أن يرحل الحاج (بدر) دون أن يوصيني بالانتباه على شقته في غيابه.
عاد جاري الحاج (بدر) بعد أيام ومعه ابنته الصغرى فقط. لم يكن بمقدوره اصطحاب بقية عائلته، لأنه دفنهم في مسقط رأسه.
في ذلك اليوم الذي سافرت فيه العائلة إلى الريف، توقفت سيارة الأجرة في منتصف الطريق عند محطة للتزود بالوقود، ثم ألقى أحدهم مازحاً بسيجارة من السماء، فاحترقت الجلود وانصهر الحديد.
نجت (سبأ) لأنها نزلت من السيارة وذهبت إلى مطعم في الجهة المقابلة تتوفر فيه دورات مياه للنساء. لم تمت، ولكن قطعة من روحها ماتت إلى الأبد. أُقدّر أن عمرها يناهز السبعة عشر عاماً، وأتوقع أن تبزغ الآن شعيرات بيضاء في رأسها بعد أن رأت أمها وأخوتها السبعة متفحمين في مقاعدهم والأدخنة تتصاعد من جثثهم.
زرت الحاج (بدر) وقدمت واجب العزاء، وكانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها بيته. توافد رجال ونساء من أهل الحارة للتعزية، وارتفع منسوب الضجيج إلى درجة لا تحتملها أعصابي الواهنة، ثم بمرور الأيام خفت الضجة، وندر الزوار، إلى أن غرقت العمارة في الصمت التام.
من نافذتي كنت أرى الحاج (بدر) يقضي النهار بطوله خارج داره، يخبط عشوائياً في شوارع الحارة، ويداه معقودتان خلف ظهره. أحياناً كان يمشي باتجاه ما وكأنه يقصد منزلاً، أو يهم بالاقتراب من أحد المارة متفرساً فيه، ثم يتخشب في مكانه فجأة، وكأنه ذكر غرضاً نسيه. تمر دقائق تنقطع فيها أنفاسي أنا الذي أراقبه، وأخيراً يدور على عقبيه ويتابع المشي في الاتجاه المعاكس.
رغم تأنيب الضمير، كنت أتلصص على (سبأ) من العين السحرية، ولاحظت أن تبدلاً قد طرأ على سلوكها.. لم تعد تحتشم في ملابسها، ولا تبالي إن تركت الباب مفتوحاً لأراها وهي تتحرك في صالة شقتهم.. بل إنها كانت تفزعني حين تنظر إلى العين السحرية مباشرة، وتطلق ضحكات غريبة وكأنها أمسكت بي متلبساً بالتلصص عليها! فما يكون مني إلا أن ألوذ بالفرار إلى غرفة نومي وأنا أرتعد من صدى ضحكاتها.
في إحدى الليالي عدت متأخراً بعد سهرة طيبة مع الأصدقاء، وعند دخولي إلى العمارة وقفت كل شعرة في بدني حين رأيت (سبأ) جالسة على الدرج، في الظلام، وهي تحدق فيّ بثبات وتبتسم.. أقسم بالله أنني لم أخف من أحد كما خفت منها في تلك اللحظة!
شعرت بانحراف مزاجي لأنها أخافتني فلم أكلف نفسي عناء إلقاء السلام عليها. مررت بها صامتاً وتجاوزتها، وضعت المفتاح في ثقب باب شقتي وفتحت الباب، سمعتها تقول من وراء ظهري على مسافة قريبة: “هل رأيت أبي؟”. التفت إليها وقلت بنبرة غليظة: “لا”. دخلت وأردت أن أغلق الباب في وجهها، فسمعتها تقول: “لا أدري أين هو”. فهمت أنها قلقة على والدها، وليس للأمر علاقة بالظنون السيئة التي ظننتها. لم أعرف بماذا أرد عليها، فوقفت ساكناً في مكاني متشبثاً بالباب. قالت وهي تنظر إلى داخل شقتها بخوف: “هناك رجل غريب استغل غياب أبي ودخل بيتنا”. انعقد حاجباي وفارت الدماء في عروقي، أسرعت بحمل قضيب حديدي أدخره للطوارئ، ودخلت الشقة المظلمة أبحث عن “الغريب” وهي خلفي تضيء لي الطريق.
لمحت الحاج (بدر) مجندلاً على بطنه، دنوت منه وتحسست نبضه فإذا هو قد فارق الحياة. لعله مات بذبحة صدرية.. سمعت (سبأ) تتكلم من خلفي: “هل تحبني؟”. التفت إليها وأجبتها دون تردد: “أحبك من كل قلبي”. قالت وصوتها يتهدج بالبكاء: “لا تنساني.. وادع الله أن يغفر لي ويرحمني”. انتبهتُ أنها توجه مسدساً إلى صدغها، وثبتُ لأمنعها، ولكن ملاك الموت كان أسرع مني.
تعليقات