السلام عليكم من الطابق 42 لـ (بُرج السلاجقة).. انطباعات نصف شهر من المعرفة.. الروحانية.. الإثارة.. والإدهاش..!
عبدالله الصعفاني*
لا أثق في نشرات الأحوال الجوية؛ ولذلك حرصت على أن تضم حقيبة سفري إلى تركيا (كوت رمادي) يعبّر عن شكوكي تجاه الطقس وتقلباته.. لكنني عدت بالكوت على حالة تعطيفه في صنعاء، لأن الطقس في اسطنبول كما هو حال قونيا أو (كونيا)، كما يسميها الأتراك، كان طقسًا دافئًا، حتى لا أقول ساخنًا.
سألت نفسي: ما هذا..؟
لقد هيأتُ نفسي لجو نصف أوروبي يلبِّي رغبتي في تكرار ما أعمله في صنعاء من استغلال أمطار الصيف مشيًا على الأقدام، باحثًا عن حيرة كاظم الساهر، فإذا بالجو التركي دافئًا، وإذا بصنعاء هي من تُمطر، وشوارعها تفيض بتردٍّ خدماتي جعل بعض سكانها يفكرون بمطالبة قسم شرطة التحرير بفتح أغنية عبدالحليم (إني أتنفس تحت الماء)، فيما لا مجال عاطفي لأنْ يتحدث كاظم الساهر عن المطر وتساقُط أوراق الخريف بدلالاتها العاطفية الحراقة.
قلتُ لرفيقي خالد الخليفي:
لعلّي ربطتُ أحزمة السفر بعد رحلة طويلة عبر عدن لسماع موّال (الطريق مش بعيدة من تعز للحديدة..)، وقبل أن أخوض في تعاسة الشعور بأن المنحوس منحوس حتى لو علقوا على صدره فانوس، كنتُ تذكرتُ دعوة مولانا جلال الدين الرومي وهو يقول في لوحة عند ضريحه في قونيا التركية: تعال.. تعال.. لا يهم من أنت، ولا إلى أيّ طريق تنتهي.. تعال.. لا يهم من تكون..!
* والحق أن أول ما أردتُ زيارته في تركيا هو متحف (مولانا)، وهي التسمية التي يطلقها الأتراك على متحف الرومي وضريحه.. ربما لأنني من صعفان المتأثرة بشكل أو بآخر بالتصوف المكتسب من زيارات متكررة يقوم بها علماء المراوعة للمديرية، خاصة في كل شهرٍ رمضاني.. وموضوع مسحة قريتي الصوفية المحدودة قديم، حتى إن والديّ – أطال الله في عمريهما – كشفا لي أن الشيخ عبدالرحمن الحسن كان وراء تغيير اسمي وأنا طفل مريض، من محمد إلى عبدالله، وكليهما من أجمل الأسماء..
بالمناسبة في تراثنا الديني أنّ خير الأسماء ما حُمِّدَ وعُبِّدَ..!
* في متحف مولانا جلال الدين الرومي، المولود في خرسان، والملقب بسلطان العارفين، والذي تنقَّل في مدن كثيرة، من أهمها دمشق (سلام من سما بردا أرق.. ودمع لا يكفكف يا دمشق..)، تجوّلتُ في المتحف وفي ذاكرتي توصيات بضرورة زيارته، كما حدث من تعليق للعزيز عبدالرحمن بجاش (لا تنسَ زيارة متحف الرومي).
* تأملتُ في ضريح ابن الرومي.. تذكرت صداقته مع شمس الدين التبريزي، وزيارة الرحالة ابن بطوطة لهذه المدينة، كما استلْفَتَ نظري تزاحم ذكور وإناث من مختلف الأجناس والأعراق، وتأكدتُ في المتحف من صحة حفظي لمفردات التسامح والمحبة المنسوبة إليه (تعال تعال.. لا يهم من أنت.. ولا إلى أيّ طريق تنتهي..).
* في هذا المتحف شاهدتُ داخل المبنى الأثري مجسمات لأشخاص ومعدات وملابس، وقطعًا أثرية تعود في تاريخها إلى العصرين (السلجوقي والعثماني) اللذين يبهراك تحديدًا بسلسلة من المساجد الجميلة التي تكشف عن تاريخ وجمال وعراقة.. وهناك على مقربة من الضريح لفت نظري فتاة جميلة تبكي بحرقة، ربما شوقًا وروحانية، وربما حسرةً مِن غدْر حبيب غاية في النذالة..
تعرفون (من حق الدنيا).
* والمدن التركية بمساجدها الإسلامية الكثيرة تضفي على زائرها الكثير من الروحانية، حتى وأنت لا تجد في معظم مفردات خطبة الجمعة ما تفهمه؛ بحكم عائق اللغة، فتلجأ لقراءة سورة الكهف والإمام يخطب، وتخشى من أن يقول لك أحدهم: يا هذا لقد لغوت..!
* وعلى ذكْر المساجد.. كان مهمًّا أن أصلّي في مساجد عديدة في قونيا، ولسان حالي: ماذا لو اجتمعت الأمة على كلمة سواء، كما اجتمعت على الرياضة.. ومهما كان شعورك بالقهر تجاه التاريخ وسنينه وسوء فهمنا له، ستبهرك الآثار الإسلامية وحكاياتها وواجهات مبانٍ تذكّرك بمباني العرضي في باب اليمن بصنعاء.
تنقلتُ بين مسجد علاء الدين ومساجد جميلة أخرى إلى مسجد آيا صوفيا الذي شهد بناؤه جدلاً سياسيًّا بالنظر إلى أنه ظل لفترة تاريخية كنيسة مسيحية، ما يكفي لتلخيص مبررات الجدل وحساسيته، شأن كل ما يحصل في أمور المعتقدات وتضارب المنتمين إليها، كما هو الحال في المسجد الواقع على جانب ساحة تقسيم بذريعة أن المكان ذو أغلبية مسيحية، ومن الميدان يمتد شارع ولا أطول منه.. يلفت نظرك فيه أن الغالب في زحمته هو مشهد يستحضر فيروز وهي تغني (والحبايب اثنين اثنين).
ولا بأس من أن تتحدث ولا حرج عن جماليات حدائق ينشرح لها الصدر، كما هو الحال في الحديقة اليابانية وحديقة الفراشة.
* وكنتُ قضيتُ يومًا في اسطنبول بعد تعثُّر دخولي إلى تركيا أصلاً بسبب وضعنا في اليمن مع السفارات وطريقة الحصول على الفيزا، حيث رأت سلطات المطار أن الدعوة للمشاركة في دورة التضامن الإسلامي الرياضية ومجموع الأوراق التي بحوزتي لا تغني عن فيزا من سفارة.. وكان ما كان من أخذ الصور الأمامية والجانبية والبصمات الخماسية قبل منحي التأشيرة.
ورغم ذلك حرصت على العودة من قونيا إلى اسطنبول من جديد، عابرًا العاصمة أنقرة وربوع أرياف خضراء يصعب حصرها وتوصيف إدهاشها، متأثرًا بكون هذه المدينة، التي يقسمها جسر البوسفور إلى جزء آسيوي وآخر أوروبي، تحتضن – كما هو حال تركيا – جُزر الأميرات وعبَّاراتها، وقمة كارتبة، ومرتفعات تكتسي بالثلج حتى في الصيف، ومجمع أكواريوم المائي، والقرية العثمانية.. منها ما زرته، ومنها ما ضاق الوقت والجيب بزيارته، وعندما يكون مرشدك متطوعًا يمنيًّا لدورة التضامن، حرص على مرافقة عناصر البعثة اليمنية، وهو الشاب النبيل الباحث عن التحصيل العلمي الأكاديمي الأعلى، الصديق عصام الأحمدي، فإن رحلتك ستكون سهلة وملفوفة بالمعرفة في محيط لُغوي تركي صعب..!
- في الزيارتين الأولى والثانية كنت أقول لرفيقي الوفي المتوقد حيوية ونشاطًا خالد الخليفي – رئيس البعثة الرياضية اليمنية، وفارس المبادرات الخلاقة: جميل هو هذا التنقل بين مناطق تظهر بعضها كما لو أنها قطة جميلة متثائبة، كما هو حال محيط القرية الأولمبية، ومناطق أخرى مثيرة صاخبة وشديدة الإثارة، خاصة عندما يكون الرفيق قبل الطريق يحمل ذات الحماسة للتمتع بما هو روحاني، مدهش، تاريخي، وحضاري.
فالسلام عليكم من أعلى برج السلاجقة.. ودائمًا: اللهم أكرم اليمن بسلام يأمنُ فيه الشعب من الجوع، ويأمن فيه من الخوف.
* كاتب يمني
تعليقات